مسألة الغرر في المبيع

0
47
مسألة الغرر في المبيع

هناك غرر في المبيع ومقدار ما يصح معه البيع

 

الغرر في المبيع ومقدار ما يصح معه البيع

 

          الغرر لغةً: (يقال غره يغره غراً وغروراً ، فهو مغرور وغرير ، أي خدعه وأطمعه بالباطل ، والغرور ما اغتر به من متاع الدنيا ، والغرور الباطل وغرر بنفسه وماله تغريراً وتغرَّةً ، أي عرضها للهلكة من غير أن يعرف ، والغرر الخطر والخداع ، واغتر بالشيء أي خدع به) (1) .

          اصطلاحاً : (هو ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول ، أو ما كان بغير عهدة ولا ثقة)(2) .

اختلف العلماء في جواز الغرر في المبيع إلى ما يأتي :

المذهب الأول : جواز البيع مع وجود الغرر اليسير وما تدعو الحاجة إليه ، وهذا مذهب الإمام مالك (3) ، واحمد قريب منه (4) ، وهو ترجيح ابن تيمية (5) .

المذهب الثاني : عدم جواز البيع مع وجود الغرر مطلقاً وعلى هذا الحنفية (6) ، والشافعـي (7) .

الترجيح : يرجح ابن تيمية مذهب الإمام مالك وهو يقول (أصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره ، فانه أخذ عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس في البيوع) (1) ، ويقول (وجوز النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا باع نخلاً قد أُبِّرت أن يشترط المبتاع ثمرتها ، فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ، لكن على وجه البيع للأصل ، فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمناً وتبعاً ما لا يجوز من غيره) (2) .

أدلة أصحاب المذهب الأول ومناقشتها : استدل أصحاب هذا المذهب على جواز الغرر اليسير بحديث جابر الذي باع جمله من النبي (صلى الله عليه وسلم) ، قال له (صلى الله عليه وسلم) (أتبيع جمالك) ، قلت نعم ، فاشراهُ مني بأوقية ثم قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبلي وقدمت بالغداة ، فجئنا إلى المسجد فوجدته على باب المسجد ، قال (آلآن قدمت) ، قلت نعم ، قال (فدع جملك فادخل فصل ركعتين) ، فدخلت فصليت ، فأمر بلالاً أن يزن لي أوقية فوزن لي بلال فأرجح في الميزان فانطلقت حتى وليت ، فقال : (ادع لي جابراً) ، قلت الآن يرد علي الجمل ولم يكن شيء ابغض ألي منه ، قال (خذ جملك ولك ثمنه) (3).

وجه الدلالة : في هذا الحديث بقي المبيع عند البائع وهو الجمل بالرغم من قيام عقد البيع لحين وصول جابر (رضي الله عنه) الى المدينة على ظهر الجمل المبيع بالرغم من حق المشتري وهو النبي (صلى الله عليه وسلم ) من قبض المبيع ، فهذا يعني جواز بقاء المبيع لدى البائع لينتفع منه كما في الحديث ، ولكن الإمام مالك أجاز ذلك واعتبره من الغرر اليسير المدة القليلة ولم يجزه في البعيدة (4) ، وهذا دليل على أن الإمام مالك يجيز الغرر اليسير والحاجة تدعو إلى ذلك وربما لا يمكن التحرز عن هذا الغرر مع الحاجة إلى التعامل مع وجود هذا الغرر.

(ويجيز الإمام احمد بيع الجوز واللوز والباقلاء الأخضر مع وجود الغرر) (1) ، لحديث (أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن من العاهه) (2) .

وجه الدلالة : هو نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن بيع هذه الثمار حتى يبدو صلاحها ، فإذا بدا صلاحها جاز بيعها ، وهذه الثمار في قشورها ، ولا يمكن ضبط مقدار المقصود المستور داخل هذه القشور ومع ذلك أجازه النبي (صلى الله عليه وسلم) مع وجود الغرر اليسير فيها وفي هذا دلالة على أن الإمام احمد يجيز الغرر اليسير على أساس هذا الحديث .

واستدل الإمام احمد على بيع الصبرة جزافاً بحديث ابن عمر (كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهاها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن نبيعه حتى ننقله من مكانه) (3) .

وجه الدلالة : أن عدم اعتراض النبي (صلى الله عليه وسلم) على شراء الطعام جزافاً يعني جواز هذا النوع من البيوع مع عدم معرفة مقدار وزن أو كيل الصبرة من الطعام مع الغرر ومع ذلك لم يعترض النبي (صلى الله عليه وسلم) الا على عدم نقله .

أدلة أصحاب المذهب الثاني  ومناقشتها:

1- بحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه (نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر) (4) . ومن صور الغرر عدم جواز بيع الطير في الهواء ولا بيع الحمل ولا النتاج ولا اللبن في الضرع (5) .

2- واستدلوا بحديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) (نهى عن بيع الحبلة وحبل الحبلة) (1) . ولان فيه غرراً ، أما بيع اللبن في الضرع فعساه انتفاخ ، لأنه ينازع في كيفية الحلب ، وأما النتاج فلأنه فيه غرر لمجهولية النتاج أو عدم النتاج (2) .

وجه الدلالة : أن كل مبيع لا يعرف مقداره أو لا يمكن تسليمه ففيه غرر ، لان البيع من حقه القبض أو تسليم المبيع من قبل البائع فما لا يمكن الوفاء به يعتبر غرراً . كتسليم الطير في الهواء عند بيعه أو اللبن في الضرع لأنه ربما لا يكون هناك لبن في الضرع وكل ما كان على هذا القياس .

وعدم تجويز بيع اللبن في الضرع مع قلة قيمته دليل على عدم جواز الغرر اليسير قال الشافعي : (يشترط العلم بمقدار المبيع وهذا لا خلاف فيه) (3) ، للحديث الصحيح (أن النبي (صلى الله عليه وسلم) نهى عن بيع الغرر) (4) .

وجه الدلالة : أن كل شيء مباع يجب أن يعرف مقداره فإذا لم يعرف مقداره لا يصح بيعه لان فيه غبناً لأحد طرفي البيع وهو بمعنى الغرر المنهي عنه في هذا الحديث .

والذي أميل إليه هو مذهب الإمام مالك في جواز اليسير من الغرر لضرورات يقتضيها الحال ، كالترخيص في بيع العرايا مما لا يمكن ضبطه ولحاجة الناس اليه التي هي أرجح من هذا الغرر اليسير والله أعلم .

 

(1)  لسان العرب : 10/41-42 (مادة غرر) ، مختار الصحاح ، للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ، طبعة دار الغد الجديد الأولى ، 1429هـ – 2007م ، 249 (مادة غرر) .

(2)  كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه ، حاشية السندي ، تحقيق : ياسر رمضان محمد عبد الله ، الطبعة الأولى ، كتاب التجارات : 3/17 .

(3)  بداية المجتهد : 2/134 .

(4)  مجموع الفتاوى : 29/33 .

(5)  المصدر نفسه : 29/33 .

(6)  الهداية شرح بداية المبتدي : 3/43 .

(7)  المهذب في فقه الإمام الشافعي : 2/12

(1)  مجموع الفتاوى : 29/26-27 .

(2)  المصدر نفسه : 29/26 .

(3)  صحيح البخاري : كتاب البيوع ، باب إذا اشترى دابة أو جملاً وهو عليه هل يكون ذلك قبضاً قبل أن ينزل : 1991/2/687-688 .

(4)  بداية المجتهد : 2/134 .

(1)  المغني : 5/498 .

(2)  تقدم تخريجه في ص 53 .

(3)  صحيح مسلم : كتاب البيوع : 1527/1/672  .

(4)  المصدر نفسه ، كتاب البيوع : 1513/1/667-668 .

(5)  ينظر : الهداية : 3/158 .

(1)  البخاري : كتاب البيوع ، باب بيع الغرر وحبل الحبلة : 2036/ 2/702 .

(2)  ينظر : الهداية : 3/158 .

(3)  المجموع : 9/311 .

(4)  صحيح مسلم : كتاب البيوع ، باب بطلان بيع الحصاة ، والبيع الذي فيه غرر : رقم 1513/1/668 .