مسألة: تجاوز الميقات الى ميقات آخر عند الاجارة

0
38

(تجاوز الميقات الى ميقات([1]) آخر عند الاجارة)

من المعلوم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ((وقَّت لأهل مصر والمغرب والشام الجحفة([2])([3])، فإذا قدَّر لحاج أحد هذه الديار أن يمر بالمدينة قبلاً، فهل يحرم من ذي الحليفة أو ينتظر حتى يصل إلى الجحفة)).

تحرير محل النزاع:

1-        اتفق العلماء على أنَّ من مرَّ على احد المواقيت المكانية وهو مريد للحج والعمرة أن عليه الإحرام منه ولو لم يكن هذا الميقات لأهل بلده.

2-        ثم اختلفوا في أهل الشام ومصر إذا مرّوا بذي الحليفة هل يُلزمون بالإحرام منه أم ينتظرون الإحرام حتى مرورهم بالجحفة؟ وهذه الصورة هي محل مسألتنا.

وأن من كان “ميقاته الجحفة كأهل مصر والشام ، إذا مروا على المدينة: فلهم تأخير الإحرام إلى الجحفة، ولا يجب عليهم الإحرام من ذي الحليفة”([4]) خلافاً للحنابلة.

سبب الخلاف:

الخلاف في هذه المسألة فرع من خلاف آخر وهو: هل الإحرام من الميقات عند المرور به “من النسك الذي يجب في تركه الدم أم لا ؟”([5])، وعلى ذلك اختلفوا في من مر بأحد هذه المواقيت وهو لم يرد حجاً ولا عمرة هل يلزمه الإحرام؟ “فقال قوم: كل من مر بهما يلزمه الإحرام إلا من يكثر ترداده مثل الحطابين وشبههم، وبه قال مالك. وقال قوم: لا يلزم الإحرام إلا لمريد الحج أو العمرة”([6])، وخص أهل الشام بهذه المسألة لأنهم ومن في جهتهم يمرون بالمدينة وميقاتها في طريقهم إلى مكة.

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين هما:

القول الأول : انه يلزم الحاج والمستأجر الإحرام منه ولو كان ميقاته الجحفة او ابعد عن مكة. وهو قول بعض المالكية([7])، والشافعية([8])، والحنابلة([9])، والظاهرية([10]) واليه ذهب الامام المتولي حيث قال: ( ولو عينا ميقاتا أبعد عن مكة من ميقاته صحت الإجارة ويتعين ذلك الميقات)([11]).

القول الثاني: انه يجوز له تجاوز ذي الحليفة الى الجحفة ويحرم من الأخير. وهو قول الحنفية([12])، وأكثر المالكية([13]).

الأدلة :

أدلة أصحاب القول الأول:

استدل القائلون بلزوم الإحرام من ذي الحليفة بما يأتي:

الدليل الأول: حديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَقَالَ: «هُنَّ لَهُمْ، وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ، مِنْ مَكَّةَ»([14]).

وجه الدلالة:

الوجه الأول: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) حدد ذا الحليفة ميقاتاً من ضمن هذه المواقيت، (فلم يجز تجاوزه بغير إحرام كسائر المواقيت)([15]).

الوجه الثاني: ان من مر بميقات ولو لم يكن من أهله يصير من أهله بمنطوق الحديث اذا كان مريداً للحج او العمرة، وقد تقرر أنه لا يجوز مجاوزة الميقات دون إحرام، فيلزمه الإحرام من ذي الحليفة لتحقق الأمرين: المرور والنية.

ونوقش: ان من جاوز الميقات الأول ” الى الثاني صار من أهله أي صار ميقاتاً له”([16]) بنص هذا الدليل أيضا ؛ لأنه مر عليه فصار من أهله.

الدليل الثاني: ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفة([17]).

وجه الدلالة:

يمكن أن يقال: أن هذه الحديث بحكم القيد او التفسير للحديث السابق، فتحديد الجحفة لأهل الشام إنما هو إذا ساحلوا – أي طرقوا ساحل البحر ولم يمروا بالمدينة – ، فمن مر بالمدينة لم يساحل، فيكون حكمه حكم أهلها.

ويناقش: بما سبق في دليلهم الأول، وأيضاً بأن من مر بالجحفة فقد ساحل قطعاً، فيكون ميقاته الجحفة بهذا الدليل أيضاً.

أدلة أصحاب القول الثاني :

استدل أصحاب القول الثاني بما يأتي:

الدليل الأول: بحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَقَالَ: «هُنَّ لَهُمْ، وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ، مِنْ مَكَّةَ»([18]).

وجه الدلالة:

أن أهل الشام بنص الحديث ميقاتهم الجحفة، فمن تجاوز منهم ذا الحليفة كان تجاوزه الى ميقات محدد لهم بنص الشارع.

ونوقش: ان هذا الخبر محمول على أنه ” أريد به من لم يمر على ميقات آخر”([19]).

ويجاب: بما سيأتي الاستدلال به من الدليل الثاني.

ويناقش: بأن مرورهم على ذي الحليفة يجعلهم من أهله بمنطوق هذا الحديث أيضاً، إذ قرر (صلى الله عليه وسلم) في عجزه القاعدة الشرعية التالية: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)([20]).

ويجاب: إن كان لهم حكم أهل المدينة بالمرور، فيكون لهم الجحفة بالنص والمرور أيضاً.

الدليل الثاني: ويستدل لهم بحديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يُسْأَلُ عَنِ الْمُهَلِّ فَقَالَ: سَمِعْتُ – أَحْسَبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ»([21]).

وجه الدلالة:

أن الحديث صريح بمنطوقه ان لأهل المدينة ميقاتين يختلفان باختلاف الطرق، فتكون العبرة في التحديد بالمرور.

ويناقش: بأن الحديث وإن كان في صحيح مسلم فإن الراوي عن جابر رضي الله عنه وهو أبو الزبير([22]) قال بعد ما صرح بالسماع من جابر رضي الله عنه: وأحسبه رفع الى النبي (صلى الله عليه وسلم). ثم ساق الحديث، فيكون الحديث موقوفاً على جابر لأنه الأصل، والرفع لا يحكم به مع وجود الشك.

ويجاب عن ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن جابراً رضي الله عنه أضبط الصحابة روايةً في أحاديث الحج([23]).

الوجه الثاني: أن هذا الحديث على فرض وقفه فإن له حكم الرفع؛ لأن هذه من المسائل التوقيفية التي لا يقال بها بالاجتهاد، يؤكده بقية الحديث الذي روي من طرق أخرى مرفوعة بالاتفاق.

الدليل الثالث: فعل عائشة (رضي الله عنها): كانت تعتمر في آخر ذي الحجة من الجحفة، وتعتمر في رجب من المدينة وتهل من ذي الحليفة([24]).

وجه الدلالة:

أن عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها كانت تحرم من هذين الميقاتين، فدل على الجواز وأن المحرم بالخيار، ومثل هذا الصنيع لا يخفى على صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهي أمهم، ولما لم ينقل عن أحد منهم الإنكار عليها فيكون سكوتهم موافقة لها على فعلها.

الراي الراجح:

مما سبق استعراضه يتضح لنا بترجيح قول الأحناف والمالكية وقول الشيخ المتولي؛ لقوة أدلتهم، ولأن العبرة بالمرور لا بالجهة عند التعارض، ولأن المار على الجحفة تكون ميقاته ولو كان من أهل المدينة، مع تقييد هذا الترجيح بشرط وهو أنه في هذه الحالة يجب المرور على ميقات الجحفة نفسه ولا يجوز الإحرام بالمحاذاة. والله أعلم


([1]) التوقيت والتأقيت والميقات: من باب التفعيل، وهو أن يجعل للشيء وقت يختص به، وهو بيان مقدار المدة، يقال: وقت الشيء يوقته، ووقته يقته إذا بين حده، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان فقيل للموضع: ميقات وهو مفعال منه وأصله: موقات: فقلبت الواو ياء لكسرة الميم. ينظر: النهاية لابن الأثير (5/ 472).

([2]) الجحفة: موضع على ثلاث مراحل من مكة، وهي بضم الجيم وسكون الحاء المهملة بعد الجيم، وسميت الجحفة لأن السيل أجحف بها، وقيل في تسميتها غير ذلك، ومن رابغ يحرم الآن، وقد كانت الجحفة مدينة عامرة ومحطة من محطات الحاج بين الحرمين، ثم تقهقرت في زمن لم يتعين تحديده؛ إلا أنه قبل القرن السادس، وتوجد اليوم آثارها شرق مدينة رابغ باثنين وعشرين كيلا، إذا خرجت من رابغ تؤم مكة كانت إلى يسارك حوز (ناحية) السهل من الجبل، المعالم الجغرافية في السيرة النبوية (ص 80).

([3]) أخرجه مسلم في صحيحه, باب مواقيت الحج والعمرة 2/839, (12).

([4]) الاختيارات للبعلي/174. وينظر: الإنصاف 3/383.

([5]) بداية المجتهد 2/231.

([6]) المصدر نفسه.

([7]) ينظر: الاستذكار 11/83، وبداية المجتهد 2/231.

([8]) ينظر: المجموع 7/206، ومغني المحتاج 1/473.

([9]) ينظر :الإنصاف 3/383 ، كشاف القناع 2/218.

([10]) ينظر: المحلى 7/70.

([11]) ينظر: المجموع 7/ 122.

([12]) ينظر: بدائع الصنائع 2/372, وفتح القدير 2/132.

([13]) ينظر: مواهب الجليل 3/36, والشرح الكبير 2/21.

([14]) أخرجه البخاري في صحيحه, باب مهلِّ من كان دون المواقيت 304, (1529), واخرجه مسلم في صحيحه, باب مواقيت الحج والعمرة 2/838, (1181)

([15]) المغني 5/64.

([16]) فتح القدير 2/132.

([17]) أخرجه البخاري في صحيحه, باب مهلِّ اهل مكة للحج والعمرة, 303, (1524), واخرجه مسلم في صحيحه, باب مواقيت الحج والعمرة 2/838, (1181) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

([18]) أخرجه البخاري في صحيحه, باب مهلِّ أهل الشام 304, (1526), وأخرجه مسلم في صحيحه, باب مواقيت الحج والعمرة 2/838, (1181).

([19]) المغني 5/64.

([20]) تقدم تخريجه.

([21]) أخرجه مسلم في صحيحه, باب مواقيت الحج والعمرة 2/841, (1183)

([22]) هو أبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدرُس الأسدي مولاهم المكي ، صدوق الا أنه يدلس ، مات سنة 126هـ . ينظر :التقريب لابن حجر ص506 .

([23]) ينظر: الحاوي الكبير 4/45, والدرر في أختصار المغازي واليسر 197.

([24]) أخرجه ابن ابي شيبة في مصنفه- الجزء المتمم – 172, وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى 4/344.