اختلف العلماء في حكم المسح على الجوربين الى ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: يجوز المسح عليهما إذا كانا ثخينين؛ ويمكن المشي فيهما؛ وهو المذهب الذي رجحه الإمام المباركفوري بقوله: (( والراجح عندي أن الجوربين إذا كانا صفيقين([1]) ثخينين فهما في معنى الخفين يجوز المسح عليهما، وأما إذا كانا رقيقين بحيث لا يستمسكان على القدمين بلا شد ولا يمكن المشي فيهما فهما ليسا في معنى الخفين، وفي جواز المسح عليهما عندي تأمُّل والله تعالى أعلم))([2]).
وبه قال: علي ، وابن مسعود ، وابن عمر، وأنس، وعمار بن ياسر، وبلال والبراء، وأبي إمامة، وسهل بن سعد ، وعمرو بن حريث، وخلاس بن عمرو، ونافع مولى ابن عمر، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وسعيد بن جبير، والنخعي، والأعمش، والثوري، والحسن بن صالح، وابن المبارك، وإسحاق، وأبو ثور([3]).
وإليه ذهب: أبو يوسف ، ومحمد صاحبا أبي حنيفة ؛ وقد تابعهم الإمام أبو حنيفة عليه في آخر أيامه وعليه الفتوى في المذهب الحنفي([4])،
والشافعية في الصحيح([5]) والحنابلة([6])، وداود الظاهري([7]).
المذهب الثاني: لا يجوز المسح عليهما إلا إن يكونا ثخينين لا يشفّان الماء؛ وأن يكونا منعّلين أو مجلدين.
وبه قال: مجاهد، وعمرو بن دينار، والحسن بن مسلم، ورواية عن الأوزاعي([8]).
وإليه ذهب: أبو حنيفة في أول الأمر([9])، والمالكية في أصحّ القولين([10])والشافعي في قول([11])، ورواية عن أحمد([12]).
المذهب الثالث: جواز المسح على الجوربين مطلقاً.
حكي عن: عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب y([13]).
وإليه ذهب: ابن حزم([14]).
الأدلة ومناقشتها |
أدلة المذهب الأول:
1 ـ إنَّ المسح على الجوربين يذكر عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله r ولم يعرف لهم مخالف فكان كالإجماع([15]).
2 ـ لأن الجورب الثخين وهو أن يستمسك على الساق من غير أن يربط بشيء ملبوس ساتر للقدم ويمكن متابعة المشي فيه فأشبه الخف([16]).
أدلة المذهب الثاني:
1 ـ عن المغيرة بن شعبةt أنَّ رسول الله r :(توضأ ومسح على الجوربين والنّعْلين)([17]).
وجه الدلالة: إنَّ الحديث يحمل على أن الجورب كان منعّلاً أو مجلّداً، حتى يكون في معنى الخف([18]).
واعترض عليه من أوجه:
الأول: إنَّ هذا الحديث قد ضعفه جمع من أئمة الحديث منهم: سفيان الثوري، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ومسلم بن الحجاج، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وأبو داود([19])، ونقل البيهقي عن الإمام مسلم بن الحجاج قوله:(( أبو قيس الأودي ، وهزيل بن شرحبيل [وهما من رجال إسناد هذا الحديث] لا يحتملان هذا، مع مخالفتهما الآجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة، فقالوا: مسح على الخفين، فلا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهزيل))([20]).
وقال أبو داود:(( كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة: أن النبي r : مسح على الخفين))([21]).
وأجيب: بأنَّ الإمام الترمذي قد صححه بقوله:(( هذا حديث حسن صحيح))([22]) ،وأيضاً فإنَّه ليس مخالفاً لرواية الجمهور مخالفةُ معارضةٍ بل هو أمر زائد على ما رووه ولا يعارضه ، ولا سيما وهو طريق مستقل برواية هذيل عن المغيرة([23]).
ونوقش: بأن أعلام أئمة الحديث قد ضعفوه كما تقدم، وأن كل واحد منهم هو مقدم على الترمذي بالاتفاق، فكيف بقولهم مجتمعين؟([24]).
وأجيب: إنَّه روي من طرق متعددة وهي وإن كانت كلها ضعيفة فقد اعتضد بعضها ببعض والضعيف إذا روي من طرق صار حسناً لغيره مع ما ظهر من مسح كثير من الصحابة من غير نكير([25]).
وقال الإمام المباركفوري:(( فإذا عرفت هذا كله ظهر لك أن أكثر الأئمة من أهل الحديث حكموا على هذا الحديث بأنه ضعيف مع أنهم لم يكونوا غافلين عن مسألة زيادة الثقة فحكمهم عندي والله تعالى أعلم مقدم على حكم الترمذي بأنه حسن صحيح ))([26]).
الثاني: لو صح لحمل على الذي يمكن متابعة المشي عليه جمعا بين الأدلة وليس في اللفظ عموم يتعلق به([27]).
الثالث: إنَّ هذا الحديث يدل على أنهما لم يكونا منعّلين ؛ لأنهما لو كانا كذلك لم يذكر النعلين فإنَّه لا يقال: مسحت على الخف ونعله([28]).
2 ـ لأنَّ الجوربين إذا لم يكونا منعّلين أو مجلدين؛ لا يمكن متابعة المشي فيهما في السفر؛ فلم يجز المسح عليهما كالجوربين الرقيقين([29]).
واعترض أصحاب المذهب الأول: بأنَّ الجورب لا يجوز المسح عليه إلا أن يكون مما يثبت بنفسه ويمكن متابعة المشي فيه؛ وهو الجورب الثخين؛ الذي جوزنا المسح عليه؛ وأما الجورب الرقيق فلم نقل به لأنه ليس بساتر([30]).
واعترض أصحاب المذهب الثالث بقول ابن حزم منكراً عليهم:(( اشتراط التجليد خطأ لا معنى له؛ لأنه لم يأت به قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا قول صاحب))([31]).
أدلة المذهب الثالث:
1 ـ حديث المغيرة t أن النبي r:(( مسح على جوربيه ونعليه))([32]).
وجه الدلالة: ظاهر من لفظ الحديث ان النبي r مسح على جوربيه من غير تفصيل بكونهما ثخينين او منعلين.
واعترض: بأنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج كما تقدم.
2 ـ عن ثوبانt قال:( بعث رسول الله r سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي rشكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين)([33]).
وجه الدلالة: إنَّ التساخين كل ما يسخن به القدم من خف ، وجورب ونحوهما([34])، وقال أبو عبيد:(( هي الجوارب))([35]).
واعترض من وجهين:
الأول: إنَّ هذا الحديث لا يصلح للاستدلال به ؛ لأنه منقطع فإنَّ راشد بن سعد لم يسمع من ثوبان([36]).
الثاني: إنَّ التساخين قد فسرها أهل اللغة بالخفاف([37]).
الترجيح |
بعد الاطلاع على مذاهب العلماء في حكم المسح على الجوربين، وبيان أدلتهم في ذلك ؛ فاني أميل إلى ترجيح المذهب الأول؛ لأن الجواز في المسح على الخفين إنما جاءت به الشريعة الغراء لرفع الحرج لما يلحق الناس من المشقة بالنزع ؛ وهذا المعنى موجود في الجورب الثخين؛ وإن لم يكن مجلداً؛ وهو المذهب الذي ذهب إليه الإمام المباركفوري ورجحه.
([1]) قال الزبيدي: ((الصَّفِيقُ من الثِّيابِ: الكَثيفُ الغَليظُ)) ، تاج العروس: 7/202 ، مادة [وجح].
([3]) ينظر: سنن الترمذي: 1/167 ، أحكام القران للجصاص: 3/356 ، الحاوي الكبير: 1/364 ، المحلى: 2/86 ، الاستذكار: 1/222 ، التمهيد: 11/156 ، حلية العلماء: 1/133 ، شرح السنة: 1/458 ، المغني: 1/181 ، المجموع: 1/564 ، الشرح الكبير: 1/149 ، كشاف القناع: 1/111 ، عون المعبود: 1/187 ، تحفة الاحوذي: 1/277 ـ 278.
([4]) يروى رجوع أبي حنيفة إلى ما قال صاحباه قبل وفاته بثلاثة أيام: وقال : فعلت ما كنت نهيت عنه ، ينظر: المبسوط للشيباني: 1/91 ، أحكام القران للجصاص: 3/356 ، المبسوط للسرخسي: 1/102 ، الهداية شرح البداية: 1/30 ، الاختيار: 1/28 ، العناية: 1/251 ـ 252 ، البحر الرائق: 1/192 ،تحفة الاحوذي: 1/278 ، العرف الشذي شرح سنن الترمذي، لمحمد أنور شاه ابن معظم شاه الكشميري الهندي(ت 1353هـ) تحقيق: محمود أحمد شاكر، مؤسسة ضحى للنشر والتوزيع، ط1 : 1/134.
([5]) ينظر: الحاوي الكبير: 1/364 ، حلية العلماء: 1/133 ، المجموع: 1/564 ، مغني المحتاج: 1/66 ، تحفة الاحوذي: 1/278.
([6]) ينظر: سنن الترمذي: 1/167 ، المغني: 1/181 ، الكافي في فقه ابن حنبل: 1/37 ، الشرح الكبير: 1/149 ، المبدع: 1/136 ، الروض المربع: 1/59 ، كشاف القناع: 1/111.
([8]) ينظر: شرح السنة: 1/458 ، المغني: 1/181 ، المجموع: 1/ 564 ، الشرح الكبير: 1/149 ،شرح سنن أبي داود للعيني: 1/374.
([9]) ينظر: المبسوط للشيباني: 1/91 ، أحكام القرآن للجصاص: 3/356 ، المبسوط للسرخسي: 1/102 ، الهداية شرح البداية: 1/30 ، الاختيار: 1/28 ، العناية: 1/251 ـ 252 ، شرح سنن أبي داودللعيني: 1/374 ، البحر الرائق: 1/192.
([10]) ينظر: الكافي في فقه أهل المدينة: 1/27 ، الاستذكار: 1/222 ، التمهيد: 11/156 ، التلقين: 1/72 ، التاج والإكليل: 1/319.
([11]) ينظر: الأم: 1/49 ، مختصر المزني: 1/10 ، الحاوي الكبير: 1/365 ، المهذب: 1/21 ، حلية العلماء: 1/133 ، شرح السنة: 1/458 ، المجموع: 1/566 ، تحفة الاحوذي: 1/283.
([12]) ينظر: الفروع: 1/127 ، شرح سنن أبي داود للعيني: 1/374.
([15]) ينظر: المغني: 1/181 ، الكافي في فقه ابن حنبل: 1/36 ، الشرح الكبير: 1/149 ، المبدع: 1/136 ، كشاف القناع: 1/111.
([16]) ينظر: المغني: 1/181 ، الكافي في فقه ابن حنبل: 1/36 ، المجموع: 1/565 ، الشرح الكبير: 1/149 ، الهداية شرح البداية: 1/30 ، العناية: 1/251 ، المبدع: 1/136 ، البحر الرائق: 1/192 ، كشاف القناع: 1/111.
([17]) أخرجه ابن ماجة ـ كتاب الطهارة، باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين، برقم(559): 1/185 ، الترمذي ـ كتاب الطهارة ـ باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين، برقم(99) : 1/167 ، وقال عنه: (( هذا حديث حسن صحيح)).
([18]) ينظر: أحكام القران للجصاص: 3/356 ، شرح سنن أبي داود للعيني: 1/374.
([19]) ينظر: سنن أبي داود: 1/41 ، السنن الكبرى للبيهقي: 1/ 284 ، المجموع: 1/ 566 ، تحفة الاحوذي: 1/ 278 ـ 279.
([20]) السنن الكبرى للبيهقي: 1/ 284.
([23]) ينظر: نصب الراية: 1/159 .
([25]) ينظر: البحر الرائق: 1/192 ، نصب الراية: 1/159.
([28]) ينظر: المغني: 1/181 ، الشرح الكبير: 1/149 ، المبدع: 1/136 ، كشاف القناع: 1/111.
([29]) ينظر: المبسوط للسرخسي: 1/102 ، الهداية شرح البداية: 1/30 ، المغني: 1/181 ، الشرح الكبير: 1/149 ، الاختيار: 1/28 ، العناية: 1/251 ، البحر الرائق: 1/192 ، تحفة الاحوذي: 1/283.
([30]) ينظر: المغني: 1/181 ، الشرح الكبير: 1/149.
([33]) أخرجه احمد ـ باقي مسند الأنصار ـ حديث ثوبانt ، برقم(22437): 5/277 ، أبو داود ـ كتاب الطهارة ـ باب المسح على العمامة، برقم(146): 1/56 ، البيهقي ـ كتاب الطهارة ـ باب إيجاب المسح بالرأس وإن كان متعمما، برقم(293): 1/62 ، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط :(( إسناده صحيح رجاله ثقات)).
([34]) ينظر: تحفة الاحوذي: 1/287.
([35]) غريب الحديث، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي إبن الجوزي (508 – 597هـ) تحقيق : د.عبد المعطي أمين قلعجي، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1 (1985): 1/107.
([36]) ينظر: المراسيل لابن أبي حاتم الرازي، لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي(ت327هـ) مكتبة مشكاة: 1/59 ، تهذيب التهذيب: 3/226 ، تحفة الاحوذي: 1/287.
([37]) ينظر: الصحاح: 6/412 ، مادة [سخن] ، الفائق في غريب الحديث، لمحمود بن عمر الزمخشري (ت538هـ) تحقيق: علي محمد البجاوي ـ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة – لبنان، ط 2:2/266 ، مادة [الشين مع الواو] ، النهاية في غريب الحديث والأثر، لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري(544- 606هـ) تحقيق: طاهر أحمد الزاوي – محمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية – بيروت ( 1399هـ – 1979م): 1/501 ، لسان العرب: 13/204 ، مادة [سخن] ، المصباح المنير:1/142 ، مادة [س خ ن] ، تحفة الاحوذي: 1/287.