حكم بول ما يؤكل لحمه

0
106

مسألة : طهارة بول ما يؤكل لحمه

اختلف العلماء في حكم طهارة بول الحيوان المأكول لحمه الى مذهبين:

المذهب الأول: إنَّ بول الحيوان المأكول لحمه طاهر؛ وهو المذهب الذي رجحه الإمام المباركفوري بقوله:(( وعندي القول الظاهر قول من قال بطهارة بول ما يؤكل لحمه))([1]).

وبه قال: عطاء، والنخعي، والزهري، وابن سيرين، والحكم، والشعبي، والثوري، والليث، والحسن بن صالح، وإسحاق، وابن علية([2]).

وإليه ذهب: محمد بن الحسن ، وزفر من الحنفية ([3]) ، والمالكية ([4])، وبعض الشافعية([5])، والحنابلة([6])، وداود الظاهري([7])، والزيدية([8])، والإمامية([9]).

المذهب الثاني: إنَّ بول الحيوان المأكول لحمه نجس.

وبه قال: ابن عمرt، وحماد، والحسن البصري، وعبد الرحمن بن القاسم، وميمون بن مهران، وأبو ثور([10]).

وإليه ذهب: الحنفية غير محمد بن الحسن ، وزفر ([11])، والشافعية([12])، والظاهرية([13])، والإباضية([14]).

الأدلة ومناقشتها

أدلة المذهب الأول:

1 ـ عن أنس بن مالكt أنَّ ناساً من عرينة قدموا على رسول الله r المدينة فاجتووها فقال لهم رسول الله r:( إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها )([15]).

وجه الدلالة: لو كانت أبوالها نجسة ما أباح لهم ذلك وهذا نص في بول الإبل، ويقاس عليه بقية الحيوانات المأكول لحمها([16]).

واعترض: بأنَّه لا حجة في هذا الحديث، لأنَّه r إنَّما أباح لهم شرب البول لضرورة التداوي([17]).

وأجيب: إنَّ التداوي ليس حال ضرورة بدليل أنَّه لا يجب ومحال أن يأمرهم r بشرب ابوالها وهى نجسة ؛ لأن الأنجاس محرمة في الشرع، ولو أباحها للضرورة لأمرهم بغسل أثره إذا أرادوا الصلاة([18]).

واعترض: بأنَّ ذلك حال ضرورة، إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره وما أبيح للضرورة لا يسمى حراماً وقت تناوله لقوله U: ﭽ ﭚ  ﭛ    ﭜ  ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  ﭣ ﭼ ([19])، فما اضطر إليه المرء فهو غير محرم عليه كإباحة الميتة للمضطر([20]).

ويمكن أن يجاب: بأنه لا لزوم بين الضرورة والوجوب ، كدفع الصائل عن ماله فهو ضرورة وليس بواجب وكذا كشف العورة للتداوي ونحو ذلك.

2 ـ عن أنسt قال:( كان النبي r يصلي قبل أن يبنى المسجد في مرابض الغنم)([21]).

وجه الدلالة: دل هذا الحديث على انه لم يكن النبي r وأصحابه يصلون على الأوطئة والمصليات، وإنما كانوا يصلون على الأرض، ومرابض الغنم لا تخلو من أبعارها وأبوالها، فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم([22]). وقال ابن قدامة:(( وقال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة الصلاة في مرابض الغنم))([23]).

واعترض: بأنّه معلل بأنها لا تؤذي كالإبل ولا دلالة فيه على جواز المباشرة ولا نجاسة أبوال الإبل وبعرها للنهي عن الصلاة في مباركها([24]).

وأجيب: بأنَّ الصلاة في مرابض الغنم تستلزم المباشرة لآثار الخارج منها والتعليل بكونها لا تؤذي أمر وراء ذلك ، والتعليل للنهي عن الصلاة في معاطن الإبل بأنها تؤذي المصلي ، يدل على أن ذلك هو المانع لا ما كان في المعاطن من الأبوال والبعر([25]).

3 ـ لأنه متحلل معتاد من حيوان يؤكل لحمه فكان طاهراً قياساً على ريقه، ولبنه([26]).

4 ـ لو كان البول نجساً لتنجست الحبوب التي تدوسها البقر؛ فإنَّها لا تسلم من أبوالها فيتنجس بعضها؛ فيختلط النجس بالطاهر؛ فيصير حكم الجميع حكم النجس([27]).

5 ـ أجمع أهل الحرمين على عدم المنع من الصلاة على ذرق الحمام مع كثرته، فدل هذا الفعل على طهارته([28]).

واعترض بأنه لا دليل فيه من وجهين:

الأول: إنَّ هذا ليس فعل جميعهم ، فلا يصح الاحتجاج به.

الثاني: إنَّه لو كان فعل جميعهم لم يلزم ؛ لأنهم ليسوا كل الأمة، ولو كانوا كل الأمة لم يكن إجماعاً، لأنَّ ابن عمر، والحسن يخالفان في المسألة([29]).

7 ـ قياساً على أن عسل النحل يخرج من الدبر، وليس بنجس([30]).

واعترض: بأنَّ العسل يخرج من فم النحل لا من دبرها؛ على أن النحل حيوان لا يؤكل لحمه، وما لا يؤكل لحمه فبوله وروثه نجس بإجماعنا، وإياهم([31]).

أدلة المذهب الثاني:

1 ـ قوله U ﭽ ﭣ  ﭤ  ﭥ  ﭦ   ﭧ  ﭩ  ﭪ   ﭫ  ﭬ  ﭭ  ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ  ﭲ  ﭳ  ﭴﭼ ([32]).

وجه الدلالة: إنَّ الله سبحانه أنعم علينا بإخراج اللبن من بين فرث ودم، وفائدة الامتنان إخراج طاهر من بين نجسين([33]).

2 ـ قوله U: ﭽ ﮈ  ﮉ   ﮊ  ﭼ ([34]).

وجه الدلالة: من المعلوم أنَّ الطباع السليمة تستخبث البول مطلقاً ، وتحريم الشيء لا لاحترامه وكرامته تنجيس له شرعا([35]).

3 ـ  عن ابن عباسt قال: مَرَّ النبي r بقبرين فقال:( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)([36]).

وجه الدلالة: إنَّ هذا الحديث قد عم جنس البول ولم يخصه ببول الإنسان ولا أخرج عنه بول المأكول([37]).

وأجيب: بأنَّ المراد به بول الإنسان لما في صحيح البخاري ومسلم بلفظ : (كان لا يستتر من بوله )([38])([39]) ، وقال ابن بطال:(( إنَّ المراد بول الناس لا بول سائر الحيوان … فلا تعلق في حديث هذا الباب لمن احتج به في نجاسة بول سائر الحيوان))([40]).

4 ـ عن عمار بن ياسر t إنَّ النبي r قال له:( إنما يغسل الثوب من خمس: من الغائط والبول والقيء والدم والمني، يا عمار ما نخامتك ودموع عينيك والماء في ركوتك إلا سواء)([41]).

وجه الدلالة: إنَّه r ذكر من جملتها البول مطلقاً، من غير تفصيل بين بول الآدمي أم الحيوان وسواءاً كان مأكول اللحم أم لا([42]).

4 ـ عن أبي هريرة t أنَّ رسول الله r قال:( استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)([43]).

واعترض: أن المراد بقوله r استنزهوا من البول بول الناس، لا بول سائر الحيوان([44]).

5 ـ لأنَّ بول الآدمي نجس؛ فيقاس عليه بول البهائم بكونه نجسا أيضا([45]).

6 ـ إنَّ البول أصله من الدم؛ فلما كان الحيوان دمه نجس وجب أن يكون بوله نجسا أيضا([46]).

7 ـ إنَّ معنى النجاسة فيه موجود وهو الاستقذار الطبيعي لاستحالته إلى فساد وهي الرائحة المنتنة، فصار كروثة وكبول ما لا يؤكل لحمه([47]).

الترجيح

بعد ذكر مذاهب الأئمة في حكم بول الحيوان المأكول لحمه؛ وبيان أدلتهم فيما ذهبوا إليه؛ فاني أميل إلى ترجيح المذهب الثاني القائل بنجاسة البول مطلقاً؛ لقوة أدلتهم، وإنَّ في أدلة المذهب الأول ما يشعر بأنَّ الرخصة في شرب أبوال الإبل كانت لسبب مخصوص وهو ضرورة التداوي، كما أجاب عنه أصحاب لمذهب الثاني، فلا يدل على طهارتها؛ وأما الصلاة في مرابض الغنم فإنَّه مشعر بأنها كانت لوقت مخصوص، ولم تستمر طويلاً، كما أنَّ ليس في الرواية أنهم كانوا يباشرون النجاسة فلم تدل على طهارتها، كما أجاب عنه أصحاب المذهب الثاني.

([1]) تحفة الاحوذي: 1/206.

([2]) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال: 1/346 ، الحاوي الكبير: 2/250 ، حلية العلماء: 1/237 ، شرح السنة: 10/258 ، المغني: 1/414 ، المجموع: 2/507 ، الشرح الكبير: 1/307 ، فتح الباري لابن حجر: 1/338 ، عمدة القاري: 3/154، نيل الاوطار: 1/60 ، عون المعبود: 1/220 ، تحفة الاحوذي: 1/204.

([3]) ينظر: الجامع الصغير: 1/78 ، المبسوط للشيباني: 1/73 ، بدائع الصنائع: 1/61 ، تبيين الحقائق: 1/27 ، العناية: 1/144 ، عمدة القاري: 3/154.

([4]) ينظر: المدونة الكبرى: 1/21 ، الكافي في فقه أهل المدينة: 1/18 ، التمهيد: 22/240 ، الاستذكار: 1/336 ، التاج والإكليل: 1/113.

([5]) وهم الاصطخري، والروياني، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان ؛ ينظر: المجموع: 2/567 ، فتح الباري لابن حجر: 1/338 ، نيل الاوطار: 1/60 ، تحفة الاحوذي: 1/204.

([6]) ينظر: المغني: 1/414 ، الكافي في فقه ابن حنبل: 1/86 ، الشرح الكبير: 1/307 ، زاد المستقنع: 1/31 ، الفروع: 1/215 ، المبدع: 1/253 ، الإنصاف: 1/339 ، الروض المربع: 1/103.

([7]) ينظر: المحلى: 1/169.

([8]) ينظر: البحر الزخار: 2/8.

([9]) ينظر: الأصول من الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي ( ت329ه‍) تحقيق: الشيخ محمد الاخوندي ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ط3 (1388هـ): 7/57 ، الخلاف: 1/195 ، المعتبر: 79 ، الجامع للشرائع: 1/23.

([10]) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال: 1/346 ، الحاوي الكبير: 2/249 ، شرح السنة: 10/258 ، المغني: 1/414 ، الشرح الكبير: 1/307 ، فتح الباري لابن حجر: 1/338 ، عمدة القاري: 3/154 ، تحفة الأحوذي: 1/204.

([11]) ينظر: الجامع الصغير: 1/78 ، المبسوط للشيباني: 1/73 ، بدائع الصنائع: 1/61 ، الهداية شرح البداية: 1/36 ، الاختيار: 1/36 ، تبيين الحقائق: 1/27 ، العناية: 1/144 ، عمدة القاري: 3/154 ، البحر الرائق: 1/239 ، الفتاوى الهندية: 1/46 ، حاشية الطحطاوي: 1/102 ، اللباب شرح الكتاب: 1/26.

([12]) ينظر: الأم: 3/115 ، الحاوي الكبير: 2/248 ، التنبيه: 1/25 ، المهذب: 1/46 ، حلية العلماء: 1/236 ، روضة الطالبين: 1/16 ، المجموع: 2/506 ، شرح مسلم للنووي: 9/18 ، فتح الباري لابن حجر: 1/338 ، نهاية الزين: 1/39.

([13]) ينظر: المحلى: 1/168.

([14]) ينظر: شرح النيل وشفاء العليل: 1/447.

([15]) أخرجه مسلم ـ كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات ـ باب حكم المحاربين والمرتدين، برقم(1671): 3/1296.

([16]) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال: 1/346 ، المغني: 1/414 ، الشرح الكبير: 1/307 ، نيل الاوطار: 1/60 ، تحفة الاحوذي: 1/204.

([17]) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال: 1/346 ، الحاوي الكبير: 2/251 ، بدائع الصنائع: 1/61 ،  المجموع: 2/507 ، شرح مسلم للنووي: 11/154 ، عمدة القاري: 3/154 ، تحفة الأحوذي: 1/204.

([18]) ينظر: المغني: 1/414 ، الشرح الكبير: 1/307 ، تحفة الاحوذي: 1/204.

([19]) الأنعام: 119.

([20]) ينظر: فتح الباري لابن حجر: 1/338 ، تحفة الاحوذي: 1/204.

([21]) متفق عليه: البخاري ـ كتاب الوضوء ـ باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، برقم(232): 1/93 ، مسلم ـ كتاب المساجد ومواضع الصلاة ـ باب ابتناء مسجد النبيe، برقم(524): 1/373.

([22]) ينظر: المغني: 1/414 ، الشرح الكبير: 1/307.

([23]) المغني: 1/414 ، وقد جاء نص ابن المنذر هكذا: (( اجمعوا أن الصلاة في مرابض الغنم جائزة ، وانفرد الشافعي فقال : إذا كان سليما من ابوالها )) الإجماع: 1/36.

([24]) ينظر: نيل الاوطار: 1/60.

([25]) ينظر: المصدر نفسه.

([26]) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال: 1/346 ، المغني: 1/414 ، الشرح الكبير: 1/307.

([27]) المغني: 1/414 ، الشرح الكبير: 1/307.

([28]) ينظر: الحاوي الكبير: 2/250.

([29]) ينظر: المصدر نفسه: 2/251.

([30]) ينظر: الحاوي الكبير: 2/250.

([31]) ينظر: المصدر نفسه: 2/251.

([32]) النحل: 66.

([33]) ينظر: الحاوي الكبير: 2/250.

([34]) الأعراف: 157.

([35]) ينظر: بدائع الصنائع: 1/61 ، المجموع: 2/507.

([36]) متفق عليه: البخاري ـ كتاب الوضوء ـ باب ما جاء في غسل البول، برقم(215): 1/88 ، مسلم ـ كتاب فضل الطهارة ـ باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، برقم(292): 1/240.

([37]) ينظر: الحاوي الكبير: 2/250 ، بدائع الصنائع: 1/61 ، نيل الاوطار: 1/61.

([38]) متفق عليه: البخاري ـ كتاب الوضوء ـ باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله، برقم(213): 1/88 ، مسلم ـ مسلم ـ كتاب فضل الطهارة ـ باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، برقم(292): 1/240.

([39]) نيل الاوطار: 1/61.

([40]) شرح صحيح البخاري لابن بطال: 1/326.

([41]) أخرجه الدار قطني ـ كتاب الطهارة ـ باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه، برقم(1): 1/127 ، وقال عنه:(( لم يروه غير ثابت بن حماد وهو ضعيف جداً وإبراهيم وثابت ضعيفان)).

([42]) ينظر: بدائع الصنائع: 1/61.

([43]) أخرجه الدار قطني ـ كتاب الطهارة ـ باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه والحكم في بول ما يؤكل لحمه، برقم(7): 1/128 ، وقال عنه:(( الصواب مرسل))، وقال ابن الملقن:(( هذا الحديث صحيح ، وله طرق كثيرات بألفاظ مختلفات ، وفي المعنى متفقات)) البدر المنير: 2/323 ، وقال الحافظ ابن حجر: ((وأعله أبو حاتم فقال: إن رفعه باطل)) التلخيص الحبير: 1/311.

([44]) ينظر: تحفة الأحوذي: 1/206.

([45]) ينظر: الحاوي الكبير: 2/250.

([46]) ينظر: الحاوي الكبير: 2/250.

([47]) بدائع الصنائع: 1/61 ، تبيين الحقائق: 1/28.