مسألة: التطوع بعد صلاة الجمعة

0
116

أجمع المسلمون على أن الجمعة فرض لا يسع تركها ويكفر جاحدها ([1])، إلا أنهم اختلفوا في عدد الركعات التي تصلى بعد الجمعة ، وفي كيفيتها على خمسة أقوال:-

القول الأول :

    التطوع بعد الجمعة الذي لا ينبغي تركه ست ركعات يصلي أربعاً ويسلم ثم يصلي ركعتين ، وهو مذهب الإمام الطحاوي(رحمه الله)، قال الإمام الطحاوي:
(( فثبت بما ذكرنا أن التطوع الذي لا ينبغي تركه بعد الجمعة ست وهو قول أبى يوسف رحمه الله إلا أنه قال أحب إلى أن يبدأ بالأربع ثم يثنى بالركعتين لأنه هو أبعد من أن يكون قد صلى بعد الجمعة مثلها على ما قد نهى عنه))([2])

وهو رواية عن الإمام أحمد، إلا أنه لم يفصل([3])

واستدل الإمام الطحاوي بما يأتي :

أحتج الإمام الطحاوي بما رواه خرشة بن الحر(رضي الله عنه) : (أن عمر (رضي الله عنه) كان يكره ان يصلى بعد صلاة الجمعة مثلها )([4])

وجه الدلالة :

إنّ الأربع ليس مثل الركعتين،فكره أن يقدم الركعتين؛ لأنهما مثل الجمعة .([5])

القول الثاني :

    التطوع بعد الجمعة  الذي لا ينبغي تركه أربع ركعات لا يفصل بينهن بسلام،

وهو رواية عن ابن مسعود t([6])، وبه قال علقمه، والنخعي، والثوري، والحسن، بن صالح ،وابن المبارك وإسحاق ([7])، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة (رحمه الله)([8])

   واحتجوا بما رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (من كان منكم مصليا  بعد الجمعة فليصل أربعا)([9])

وجه الدلالة :

  الحديث نص على أن التطوع بعد الجمعة أربع ركعات

واعترض عليه :

  إن الحديث لا دليل فيه على نفي التسليم ، فهو يحتمل أن تكون أربعا بتسليم يفصل بين ركعتين ، ويحتمل أن تكون أربعا بتسليم واحد ، فالحديث مجمل .

القول الثالث :

التطوع بعد الجمعة ركعتان كالتطوع بعد الظهر ،والأفضل والأكمل أن يصلي بعدها أربعا .

وهو مروي عن ابن عمر(رضي الله عنه) وعمران بن حصين ورواية أخرى عن النخعي([10])،واليه ذهب الشافعية([11]

وهو رواية عن الإمام مالك([12])

واستدلوا بما يأتي :

1- عن ابن عمر (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) (إنَّهُ كان لا يصلي الركعتين إلا في بيته ) متفق عليه([13])

وجه الدلالة :

إنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان لا يصلي بعد الجمعة في المسجد شيئاً، وإنه كان ينصرف إلى بيته فيصلي ركعتين، وهما الركعتان الَّلتان تُصَلّى بعد الظهر في سائر الأيام، وَكرّرَ أبن عمر (رضي الله عنه) ذكرها من أجل أنه عليه الصلاة والسلام كان يصليها في بيته ، ووجه ذلك -والله أعلم –أنه لما كانت الجمعة ركعتين لم يصل بعدها صلاة مثلها خشية أن يظن أنها التي حذفت منها، وأنها واجبة ، فلما زال عن موطن القصد صلى في بيته ([14])

2- واحتجوا بما رواه أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) (من كان مصليا منكم بعد الجمعة فليصل أربعا )([15])

وجه الدلالة :

 نبه بقوله (صلى الله عليه وسلم) (من كان مصليا منكم ) على أنها سنة وليست واجبة ،وذكر الأربع لفضلها ،ومعلوم أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي في أكثر الأوقات أربعا لأنه أمرنا بهن وحثنا عليهن وهو أرغب في الخير وأحرص عليه وأولى ([16])

واعترض عليه:

  ما ادعى من أنه معلوم فيه نظر ، بل ليس ذلك بمعلوم ولا مظنون؛ لأَنّ الذي صحَّ عنه (صلى الله عليه وسلم) صلاة ركعتين في بيته ، ولا يلزم من كونه أمر به أن يفعله([17]) .

القول الرابع :

التخيير بين الركعتين والأربع ،وهو مذهب الحنابلة ([18]

ورواية عن الشافعي([19])

   قال الإمام أحمد :”إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعا “وفي رواية ستاً([20])

واحتجوا : بحديثي ابن عمر وأبي هريرة (رضي الله عنه) وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يفعل ذلك كله .

ووجه الدلالة منها :

   أنه مخير بين أن يصلي ركعتين وأربعا، عملا بكل واحد من الحديثين وظاهره إن لا فضل لأحدهما على الآخر إلا أن حديث أبن عمر أثبت اسناداً([21])

القول الخامس :

التفريق بين الصلاة في المسجد والصلاة في البيت ، فإن صلى بعد الجمعة في المسجد صلى أربعا ،وإن صلى بعد الجمعة في البيت صلى ركعتين، وهو قول إسحاق بن راهويه([22])

وأحتج بحديث ابن عمر (رضي الله عنه) (إن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته)([23]

 وبحديث أبي هريرة t(من كان مصليا منكم بعد الجمعة فليصل أربعا)([24])، وحاصل احتجاجه أن حديث الأربع مطلق وليس مقيد بكونها في البيت ، فحديث الركعتين يحمل على ما إذا صلى في البيت وحديث الأربع على ما إذا صلى في المسجد ([25])

يمكن الإجابة عنه :

إن الأمر لو كان كذلك لما صلى بن عمر بعد الجمعة في المسجد ركعتين وهو الذي روى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته.

الترجيح :

    بعد عرض الأقوال وأدلتها والمناقشة لها فإنني أميل الى القول الذي يقول أن التطوع بعد الجمعة هو أربع ركعات لا يفصل بينهن بسلام وهو قول أبي حنيفة (رحمه الله ) ؛لأن الأخذ به أولى؛ وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي في أكثر الأوقات أربعا كما أنه أمرنا بهن وحثنا عليهن  وفعل الركعتين بيانا لأن أقلها ركعتين  ولأنه (صلى الله عليه وسلم) أمر الأمة أمراً مختصاً بهم بصلاة أربع ركعات بعد الجمعة وأطلق ذلك ولم يقيده بكونها في البيت ،وإن اقتصاره (صلى الله عليه وسلم) على ركعتين كما في حديث بن عمر (رضي الله عنه) لا ينافي مشروعية الأربع لما تقرر في علم الأصول من عدم المعارضة بين قوله الخاص بالأمة وفعله الذي لم يقترن بدليل خاص يدل على التأسي به فيه وذلك لأن تخصيصه للأمة بالأمر يكون مخصصاً لأدلة التأسي العامة([26])

                                                                والله أعلم


([1])  الأم  1/180 ،متن الرسالة لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النفزي ، القيرواني، المالكي (ت:368هـ) ، الناشر : دار الفكر،1/46 ‘ المحلى 3/244، بدائع الصنائع 1/256 ، المغني 2/218 ، الجامع للشرائع :يحيى بن سعيد الحلبي (ت: 869هـ) ، تحقيق وتخريج : جمع من الفضلاء ،إشراف : الشيخ جعفر السبحاني ، المطبعة العلمية –قم،سنة الطبع: 1405 هـ ،الناشر: مؤسسة سيد الشهداء ،ص94 ،نيل الأوطار 3/266

([2])  شرح معاني الآثار 1 / 337

([3])ينظر : المغني 2 / 219

([4])  نصب الراية :جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي ، تحقيق : محمد عوامه ، ط 1 (  1417هـ – 1997م) ، بيروت –لبنان، 2/148 ، الدراية في تخريج أحاديث الهداية لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت:852هـ) ، تحقيق : السيد عبد الله هاشم اليماني المدني ،الناشر: دار المعرفة –بيروت، 1/202

([5])  شرح صحيح البخاري 2/527

([6])  تحفة الفقهاء 1/196 ،نيل الأوطار 3/346

([7])  التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (ت: 463هـ )، تحقيق : مصطفى بن أحمد العلوي ، محمد عبد الكبير البكري ،الناشر : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب، عام النشر :1387هـ ، 14/173، طرح التثريب  ،3/38، نيل الأوطار 3/346

([8])  شرح معاني الآثار 1/336 – 337‘ تحفة الفقهاء 1/196

([9])رواه مسلم ،باب الصلاة بعد الجمعة ، رقم الحديث 69، 2/600، أبو داود ، باب الصلاة بعد الجمعة ، رقم الحديث (1331)، 1/439                

([10])ينظر :  طرح التثريب 3/39

([11])ينظر : المجموع شرح المهذب 4/9

([12])الإستذكار 2/26 ، التمهيد 14/171

([13])رواه البخاري ، باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها ، رقم الحديث 895 ،1/317 ، مسلم ، باب الصلاة بعد الجمعة ، رقم الحديث 71، 2/600

([14])ينظر : شرح صحيح البخاري 2/525-526 ، فتح الباري لابن رجب 8/321

([15])  سبق تخريجه في ص 94 ، هامش رقم (6)

([16])ينظر نيل الأوطار 3/333

([17])  طرح التثريب 3/40 ، نيل الأوطار 3/334

([18])  المغني 2/219 -220

([19])  المجموع شرح المهذب 4/9

([20]) المغني 2/219 -220

([21])  فتح الباري لابن رجب 8/322

([22])  تحفة الأحوذي 3/49

([23])  سبق تخريجه في ص 95 ، هامش رقم (4)

([24])  سبق تخريجه في ص 94 ، هامش رقم (6)

([25])  تحفة الأحوذي 3/49

([26])ينظر: نيل الأوطار 3/334