أجمع العلماء على مشروعية سجود التلاوة([1])، ولكنهم اختلفوا في وجوبه على قولين:
القول الأول :
يسجده من قرأه في صلاة نفل أو فرض وسجوده ليس بواجب لا في صلاة ولا في غيرها ، فمن شاء سجد ومن شاء ترك، وإن التالي لا يضره أن لا يفعله .وهو مذهب الإمام الطحاوي ،قال الإمام الطحاوي (رحمه الله) : ((وقد ذهب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في سجود التلاوة إلى أنه غير واجب والى أن التالي لا يضره أن لا يفعله… فهؤلاء الجلة لم يروها واجبة وهذا هو النظر عندنا لأنا رأيناهم لا يختلفون أن المسافر إذا قرأها وهو على راحلته أومئ بها ولم يكن عليه أن يسجدها على الأرض فكانت هذه صفة التطوع لا صفة الفرض لأن الفرض لا يصلى إلا على الأرض والتطوع يصلى على الراحلة وكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رضي الله عنهم يذهبون في السجود إلى خلاف ذلك ويقولون هي واجبة ))([2]). وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عباس وعمران (رضي الله عنه)([3])،
وهو مذهب مالك([4])، والشافعي ([5])،وأحمد ([6])(رحمهم الله تعالى) وبه قال الزيدية ([7])، وابن حزم([8])
واستدل الإمام الطحاوي بما يأتي :-
1-عن زيد بن ثابت (رضي الله عنه)، قال: «قرأت على النبي (صلى الله عليه وسلم) والنجم فلم يسجد فيها»([9])
وجه الدلالة :
إنَّ عدم سجود النبي (صلى الله عليه وسلم) يدل على عدم وجوب سجود التلاوة
وأجيب :
يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام لم يسجد في تلك الحال لأحد أمرين ، إمَّا أنَّ زيداً بن ثابت لما قرأ عليه لم يسجد، أو لأنه كان على غير وضوء ، ويحتمل أنه ترك السجود، لأنه لم يكن واجًبا .
ويجاب عنه :
المستحب أن يسجد القارئ أولاً ثم يسجد السامع([10])، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يمتنع من إقراء القرآن حالة الحدث الأصغر ،وإذا احتمل تركه السجود هذه المعاني فلا يتعين أحدهما إلا بدليل([11]).
2- عن عروة (رضي الله عنه) : ( أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد فسجدوا معه، ثم قرأ يوم الجمعة الأخرى، فتهيئوا للسجود، فقال عمر (رضي الله عنه) : على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء فقرأها ولم يسجد ومنعهم أن يسجدوا ).([12])
وجه الدلالة :
الأثر يدل على أن سجودها ليس بواجب على من قرأها، وأَنَّ المرء مخير في السجود([13])
3- الإجماع : فقد صح عن عمر (رضي الله عنه) بعدم وجوب سجدة التلاوة على المنبر وهذا بمحضر الصحابة فلم ينقل عن أحد منهم خلاف وهم أفهم بمغزى الشرع وهذا منه في هذا الموطن العظيم مع سكوت الصحابة دليل إجماعهم.([14])
القول الثاني :
سجود التلاوة واجب على القارئ والمستمع في الصلاة وغيرها سواء قصد سماع القرآن أو لم يكن قاصدا . وهو مذهب الإمام أبي حنيفة (رحمه الله ) .([15])
وروي ذلك عن ابن عمر والنخعي وإسحاق وسعيد بن جبير ونافع ([16]) ، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد ([17])
وهو رواية عن أحمد.([18])
واحتجوا بما يأتي :
1- قوله تعالى : (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)([19])
وجه الدلالة :
أمر الله سبحانه وتعالى بالسجود ومطلق الأمر للوجوب
واعترض على ذلك :
إِنّ الاحتجاج بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له ،فإن إيجاب السجود مطلقا لا يقتضي وجوبه مقيداً عند قراءة آية السجود، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأوامر بالصلاة ،وإذا لم يجب ذلك فلا يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود.([20])
وأُجيبَ عن ذلك :
إِنّ الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر وذلك في أكثر المواضع، وقد ورد الأمر بالسجود مقيدا عند التلاوة -، وورد به الأمر مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد، وليس الأمر في ذلك بالسجود كالأمر بالصلاة، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخر، وأيضا فإن النبي – عليه الصلاة والسلام – قد سجد فيها. فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها عند التلاوة، فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه.([21])
ويمكن الرد على هذه الإجابة :
هذا مُسَلَّم لكم في هذه الآية جدلاً؛ لأنها جاءت بلفظ الأمر فكيف يكون الأمر في بقية الآيات وهي التي لم تأتِ بصيغة افعل، وإنما جاءت بصيغة الإخبار، وأنتم تقولون : بأن السجدات كثيرة في القرآن، وهذا يستدعي أَنْ نقولَ: بأن كل سجدة جاءت بلفظ الأمر وجب عندها السجود والأخرى لا يجب ولا قائل في هذا على حد علمي والله أعلم .
2- قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ)([22])
وجه الدلالة :
إنّ الله سبحانه وتعالى ذمهم بترك السجود ووبخهم عليه فدل على وجوبه؛ لأنه لا يذم إلا على ترك الواجب.([23])
واعترض عليه :
إنّ المراد بها الكفار بدليل ما تعقبها من الوعيد الذي لا يستحقه من ترك سجود التلاوة وقوله تعالى: (لَا يَسْجُدُونَ)([24])يعني لا يعتقدون ألا ترى قوله تعالى (بل الذين كفروا يكذبون)([25])}([26])
ويجاب عنه :
بأن الآية ليس فيها دليل على ما تقولون فكيف نقيد مطلق القرآن بفعل النبي (صلى الله عليه وسلم) في آيات محددة ،والأمر يدل على أنه يجب السجود كلما قرأ القرآن ولم يقل به أَحد، فوجب المصير إلى سنية السجود وتأويل الآية بأنها قصدت “لا يعتقدون ” خصوصاً إذا نظرنا إلى ورودها وجدناها نزلت في الكفار والسجود لا يتصور منهم فهم غير مأمورين بالفروع قبل الأصول .
3- عن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: «كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقرأ السجدة ونحن عنده، فيسجد ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعا يسجد عليه» متفق عليه([27])
وجه الدلالة :
يدل الحديث على أنّ القارئ والتالي والمستمع يسجد سجدة التلاوة([28])ويمكن أن يجاب عن ذلك :
ليس فيه دليل على الوجوب وإنما هو سنة والتنافس في السنن والنوافل أمر مرغوب فيه .
4- عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال : (قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا ويله ، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار).([29])
وجه الدلالة :
تشبيه إبليس إباءه بسجوده لآدم، وسجوده لآدم كان واجبا (عليه): فكذا هذا.([30])
واعترض عليه:
قال المنبجي:(( يجوز أن يكون أراد المشابهة في كونه سجودا فذكر ما سلف له ولم يرد المشابهة في الأحكام))([31]).
يجاب :
إنّ ظاهرَهُ المشابهة في الأحكام، ولهذا ذكر الجنة والنار، اللتين كانتا جزاء لمن أَطاع، (وجزاء) لمن عصى، ثم وإن سلمنا فقد قال: أمر بالسجود، والمندوب إليه غير مأمور به.[32]
يرد :
إنما يكون هذا فيما ورد من أمر الله تعالى أو حكاه الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ربه، وأَمّا هذا فإنما هو حكاية عن إبليس، وقد يكون مخطِئاً في تعبيره عن ذلك بالأمر، فلا يحتج بقوله، وكذلك ليس في قوله: (( فله الجنة )) دليل على وجوبها، إذ ليس كل ما يدخل بفعله الجنة واجبٌ، فالمندوب يثاب عليه بالجنة وليس بواجب([33]) .، كما أن قياس سجود التلاوة على سجود إبليس فيه فارق، وهو أَنّ سجوده كان تعظيماً لا عبادة وسجودنا عبادة فافترقا فكما افترقا في الشكل فيفترقان في الحكم والله أعلم .
5- القياس : ووجهه إن هذا سجود يفعل في السفر على الراحلة فلم يكن واجبا كسجود النوافل ([34])،قال الإمام الطحاوي : ” لأنا رأيناهم لا يختلفون أن المسافر إذا قرأها وهو على راحلته ،أومئ بها،ولم يكن عليه أن يسجدها على الأرض ، فكانت هذه صفة التطوع، لا صفة الفرض ، لأن الفرض لا يصلى إلا على الأرض والتطوع يصلى على الراحلة “([35])
الترجيح :
بعد عرض أقوال الفريقين وما استدلوا به من النصوص والأحكام، يترجح لدي مذهب الإمام الطحاوي ( رحمه الله ) ومن وافقه ،القائل؛ بأَن سجود التلاوة ليس بواجب لا في صلاة ،ولا في غيرها؛ وذلك لقوة ما استدلوا به من المنقول والأحكام، أما بالنسبة لاحتجاجهم بقوله: ( أمر ابن آدم بالسجود …)على أن سجود التلاوة واجب. فإنّ تسمية هذا “أمرا” أنما هو من كلام إبليس ، فلا حجة فيه، وإنّ المراد هو أمرُ ندبٍ لا إيجاب ٍ، والمراد المشاركة في السجود لا في الوجوب([36]). والله أعلم
([1])ينظر : الأم الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي القرشي المكي ( ت: 204هـ) ، دار المعرفة –بيروت ،1410 هـ- 1990م، 1/160 ، المبسوط 2/3 ، بداية المجتهد 1/233 ، الكافي في فقه الإمام أحمد لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي الشهير بابن قدامة المقدسي (ت: 620هـ) ، ط 1( 1414هـ- 1994م ) ،دار الكتب العلمية، 1/271،سبل السلام 1/311 ، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني ، الطبعة الأولى، دار ابن حزم ، 1/176
([2]) شرح معاني الآثار 1/354-355
([3])ينظر : مختصر اختلاف العلماء 1/241، الحاوي الكبير 2/200 ‘ الشرح الكبير على متن المقنع: عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الحنبلي ،أبو الفرج ،شمس الدين (ت: 682هـ) ،أشرف على طباعته :محمد رشيد رضا صاحب المنار، دار الكتاب العربي 1/780
([4]) بداية المجتهد 1/233 ، المدخل لابن الحاج لأبي عبد الله محمد بن محمد العبدري الفارسي المالكي الشهير بابن الحاج (ت: 737هـ) ، بدون طبعة وبدون تاريخ ، الناشر : دار التراث ،4/267
([5]) الأم 1/160 ،الحاوي الكبير 2/201 ،حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء: محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر ،أبو بكر الشاشي القفال الفارقي الملقب فخر الإسلام ،المستظهري الشافعي (ت: 507هـ) ، تحقيق: ياسين أحمد إبراهيم درادكة ، ط 1( 1980م) ،مؤسسة الرسالة – دار الأرقم ،بيروت – عمان 2/122.
([6])ينظر : مسائل الإمام أحمد 1/103 ، الكافي في فقه الإمام أحمد 1/271 .
([7]) سبل السلام 1/311 ، السيل الجرار 1/176.
([9])رواه البخاري في الجامع الصحيح المختصر،باب من قرأ السجدة ولم يسجد ، رقم الحديث ( 1073) ، 2 / 41
([11])ينظر : اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/289.
([12])رواه البخاري في الجامع الصحيح المختصر ، باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود ، رقم الحديث( 1077) ،2/42
([13])ينظر : بداية المجتهد 1/233 ، فتح الباري لابن حجر 2/559، إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين لأبي بكر ( المشهور بالبكري) عثمان بن محمد بن شطا الدمياطي الشافعي (ت: 1310هـ) ، ط 1 (1418هـ – 1997م)، 1/ 243.
([14])ينظر : بداية المجتهد 1/233 ، إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين 1/243
([15])ينظر:شرح معاني الآثار 1/355 ، مختصر اختلاف العلماء 1/240 ، الهداية في شرح بداية المبتدي 1/78 ، الاختيار لتعليل المختار1/75
([16])ينظر : الهداية في شرح بداية المبتدي 1/78 ، الشرح الكبير على متن المقنع 1/780
([17])ينظر : شرح معاني الآثار 1/355 ، الاختيار لتعليل المختار 1/75
([18]) مسائل الإمام أحمد 2/743
([19])سورة العلق : من الآية (19)
([22]) سورة الانشقاق : من الآية (21)
([23]) الحاوي الكبير 2/200 ، الإختيار لتعليل المختار 1/75
([24]) سورة الانشقاق :من الآية (21)
([25]) سورة الانشقاق : آية (22)
([26]) الحاوي الكبير 2/201 ، إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين 1/243
([27])رواه البخاري ، باب إزدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة ، رقم الحديث ( 1076) ،2/41، مسلم ،باب سجود التلاوة ، رقم الحديث( 575) ، 1/405
([29])رواه مسلم ،باب إذا قرأ ابن آدم السجدة ، رقم الحديث ( 157 )،1/61 ، وابن ماجة في سننه، باب سجود القرآن ، رقم الحديث ( 1052 )، 1/334 ،البيهقي : السنن الكبرى ،باب فضل سجود التلاوة رفم الحديث ( 3700 )،2/442
([30]) اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 1/288
[31]) المصدر نفسه 1/289
[32])) ينظر : المصدر السابق 1/289
([33]) اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 1/288