يرى جمهور العلماء عدم جواز فسخ القارن نسكه الى العمرة سواء ساق الهدي او لم يسقه، عدا الحنابلة فإنهم يقولون بمشروعيته واستحبابه لمن لم يسق الهدي وهي من مفردات مذهبهم. وان محل الخلاف يكمن في:
1- من ساق الهدي (فليس له ان يحل من إحرام الحج ويجعله عمرة بغير خلاف نعلمه)([1]).
2- وأما من لم يسق الهدي، فيرى الحنابلة وحدهم استحباب الفسخ الى عمرة خلافاً للجمهور. ثم لا يخلو حال الحاج من أمرين:
الأول: ان يكون ممن يعتقد مشروعية الأمرين، فهذا له الخيار بين الفعل وتركه، وان ترك الفسخ فقد ترك الفاضل الى المفضول.
الثاني: ان يكون ممن يعتقد عدم الجواز كالحنفي والمالكي والشافعي، فعند الحنابلة حكمه كسابقه، ويرى البعض وجوب الفسخ في حقه.
سبب الخلاف:
يمكن إرجاع الخلاف الى السببين الآتيين:
السبب الأول: اختلاف الصحابة في مسألة الفسخ.
السبب الثاني: الاختلاف في أمره (صلى الله عليه وسلم) الصحابة بفسخ قرانهم الى التمتع، هل هو خاص بالصحابة او عام لجميع الأمة؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال هي:
القول الأول: تحريم الفسخ وانه احرم بالعمرة. وهو قول ” الحنفية([2])، والمالكية([3])، والشافعية([4]), واليه ذهب الامام المتولي حيث قال: (أما إذا اقتصر على الاحرام بالعمرة وأتى بأعمال القران فيحصل لله التحلل بلا شك وتبرأ ذمته من العمرة إن قلنا بجواز إدخالها على الحج وإلا فلا تبرأ منها ولا يبرأ من الحج على كل قول لاحتمال أنه أحرم أولا بعمرة والله اعلم)([5]).
القول الثاني: استحباب الفسخ. وهو قول الحنابلة([6]).
القول الثالث: الاستحباب إلا إذا اعتقد عدم مساغه فيجب الفسخ في حقه وهو رواية عن الحنابلة([7]).
القول الرابع: وجوب الفسخ مطلقاً. وهو قول، الظاهرية”([8]).
الأدلة :
ادلة أصحاب القول الأول:
استدل الجمهور القائلون بعد جواز الفسخ بما يأتي:
الدليل الأول: حملوا أمره (صلى الله عليه وسلم) الصحابة بالفسخ الى العمرة لمن لم يسق الهدي بأنه خاص بالصحابة، لحديث بلال بن الحارث رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال: (لنا خاصة)([9]).
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن الحديث لا يصح سنداً؛ لأن في سنده الحارث بن بلال وهو مجهول لا يعرف.
الوجه الثاني: أنه لا يصح متناً؛ لأنه معارض بأقوى منه كما سيأتي في أدلة المجيزين.
الدليل الثاني: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُمَحِلَّهُ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْتَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُالْعِقَابِ ([10])
وجه الدلالة:
أن الآية تدل بظاهرها على لزوم الإتمام، ومن فسخ لم يتم.
ويناقش: بأنه لا يسلم أن الفسخ رفض للإتمام؛ لأنه تحول من نسك القرآن او الإفراد الى نسك التمتع، فهو في الحالتين سيأتي بالحج، فيكون قد أتم الحج.
الدليل الثالث: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج) ([11]).
وعن عثمان رضي الله عنه قال: (متعة الحج كانت لنا، وليست لكم) ([12]). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة)([13]).
وجه الدلالة:
ان هذه ثلاثة أقوال للصحابة منهم اثنان من الخلفاء الراشدين تضمنت النهي عن الفسخ والعقوبة عليه، وأن أمره (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع كان خاصاً بهم.
ونوقش ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أنه صح عن عمر رجوعه عن هذا النهي([14]). وأما قول أبي ذر فهو “من رأيه، وقد خالفه من هو أعلم منه، وقد شذ به عن الصحابة رضي الله عنهم فلا يلتفت الى هذا، وقد اختلف لفظه”([15]).
الوجه الثاني: أن لازم هذه الأقوال تحريم المتعة ولا قائل به([16]).
الوجه الثالث: أنه روي عن غيرهم من الصحابة خلاف ذلك.
الوجه الرابع: أنه ثبت بالسنة المتواترة عن طريق خمسة عشر صحابياً خلاف ذلك، وسنة المصطفى مقدمة على أقوال الصحابة وغيرهم([17]).
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل الحنابلة على قولهم باستحباب الفسخ بما يأتي:
الدليل الأول: قوله (صلى الله عليه وسلم)🙁 مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ…) الحديث([18]).
وجه الدلالة:
ان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أمر من لم يسق الهدي بالتحلل، فدل أمره على المشروعية.
ونوقش: أن هذا الأمر “كان لأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) خاصة … لأن أهل الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج … فأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بالعمرة؛ ليبين جواز العمرة في الحج”([19]).
وأجيب: أن “هذا القول خطأ … لوجوه”([20]) منها:
الوجه الأول: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) اعتمر قبل حجة الوداع ثلاث عُمَر كلها في ذي القعدة – أي في أوسط أشهر الحج – ، ” فكيف يقال: إن الصحابة لم يعلموا جواز العمرة في أشهر الحج حتى أمرهم بالفسخ، وقد فعلها قبل ذلك ثلاث مرات؟! “([21]).
الوجه الثاني: ” أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وأمر من ساق الهدي أن يتم إحرامه … ففرق بين محرم ومحرم”([22])، وجعل “سوق الهدي هو المانع من التحلل”([23]).
الدليل الثاني: قوله (صلى الله عليه وسلم) :(لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ولم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة). فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا ام للأبد؟ فشبك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصابعه واحدة في الأخرى وقال: (دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد)([24]).
وجه الدلالة:
أن الحديث يدل على أن التمتع أفضل من القرآن لتأسفه (صلى الله عليه وسلم) على سوق الهدي، وأن هذا الحكم باق الى يوم القيامة، “وما كان هكذا فقد أمنا أن ينسخ أبداً “([25])، خاصة وأن حديث أمره بالفسخ بلغ حد التواتر، إذ رواه خمسة عشر([26]) من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
أدلة أصحاب القول الثالث:
الدليل الأول: أن الأمر بالفسخ من الأمور القطعية إذ ان دليلها قطعي الثبوت، كما أنه قطعي الدلالة اذ لا مخالف يعلم في تفسير الفسخ بأنه التحلل الفاصل بين الحج والعمرة، والأمور القطعية لا يجوز اعتقاد ضدها، ومن اعتقد عدم جواز أمر دل الشرع على مشروعيته وجب فعله؛ تكفيراً للاعتقاد الباطل، وإرغاماً للنفس على الحق.
الدليل الثاني: أن الفعل أبلغ من القول والاعتقاد، فمن اعتقد حرمة أمر مشروع وجب عليه فعله طرداً لوسواس الشيطان.
الدليل الثالث: أن تحريم الحلال كإباحة الحرام، وتحريم المسنون المشروع أخطر من تحريم المباح، ومن تمام التوبة فعل الأمر المشروع الذي يعتقد عدم مساغه.
الدليل الرابع: أن التوبة في مسائل الاعتقاد مضت السنة على أن التكفير عنها لا يكون بالاعتقاد السليم فقط بل يضامها فعل أو قول، يشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) ([27]). فلم يكتف (صلى الله عليه وسلم) بما عنده من اعتقاد ان هذا شرك بل أمره بقول : لا إله إلا الله؛ تكفيراً لذلك، وعليه فمن اعتقد عدم مساغ فسخ الحج الى عمرة فقد خالف أمراً قطعياً من أمور الشريعة، فكان المناسب – تكفيراً لهذه المخالفة – فعل ضد ما اعتقده، فيكون الفسخ واجباً في حقه.
أدلة أصحاب القول الرابع:
استدل الظاهرية بوجوب الفسخ بما يأتي:
بجميع أدلة الحنابلة إلا انهم حملوا الأمر في الأحاديث على الوجوب.
ويناقش: أن الأمر في الأحاديث محمول على السنية والمشروعية لا الوجوب؛ لأن الوجوب لم يفهمه أحد من الصحابة ولم ينقل عن أحد منهم، وهم أعلم بمرامي النصوص، فكل النقول عنهم دائرة بين المشروعية والمنع كما سبق سوقه، وبم ينقل عن احد القول بالوجوب، فيكون هذا القول تزيداً على دلالة النص.
الراي الراجح
أولاً: مما سبق بسطه من أدلة الجمهور ومعارضيهم يتضح رجحان ما ذهب اليه الحنابلة من مشروعية الفسخ؛ لأن الدليل بلغ حد التواتر سنداً، ودلالته تكاد تبلغ القطع لحديث سراقة المتقدم، والذي صرح فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن هذا الحكم للأبد فأمن النسخ كما يقول ابن حزم رحمه الله .
([2]) ينظر: فتح القدير 2/463, والمسالك في المناسك 1/685.
([3]) ينظر: الاستذكار 11/210, وبداية المجتهد 1/342.
([4]) ينظر: المجموع 7/144، والبيان 4/88.
([6]) ينظر: المبدع 3/127, والإنصاف 3/401.
([9]) اخرجه أبو داود في سننه, باب الرجل يهل بالحج ثم يجعلها عمرة, 2/161, (1808), واخرجه النسائي في سننه, باب إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي, 5/179, (2808)
([10]) سورة البقرة: أية (196).
([11]) أخرجه مسلم في صحيحه باب التقصير في العمرة, 2/914, (1249).
([12]) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب العالية 6/348, (1172), وشرح المعاني الآثار 2/195, وابن حزم في حجة الوداع 363, (417), وصحح إسناده ابن القيم في زاد المعاد 2/177.
([13]) أخرجه مسلم في صحيحه باب جواز التمتع, 2/898, (1224)
([14]) ينظر: المحلى 7/102, وزاد المعاد 2/175.
([18]) أخرجه البخاري في صحيحه, باب من ساق البدن معه 2/167, (1691), وأخرجه مسلم في صحيحه, باب وجود الدم على المتمتع وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع الى أهله 2/901, (1227).
([26]) ابن حزم في المحلى 7/103.
([27]) أخرجه البخاري في صحيحه, باب (أفرأيتم اللات والعزى) 1042, (4860), وأخرجه مسلم في صحيحه, باب من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله, 3/1267, (1647)