اتفق العلماء على أن انعقاد البيع بصيغة الماضي (الإيجاب والقبول) هي الأصل ، في الإيجاب والقبول بلفظ الماضي (بعت واشتريتُ) وعلى هذا الحنفية(1) والمالكية (2) ، والشافعية(3) ، والحنابلة (4) ، لا خلاف بينهم في ذلك (أن اللفظ بالماضي دليل على العزيمة المسبقة على النطق وإرادة البيع والشراء ، فيتم الركن لأن هذه الصيغة ، وإن كانت ماضياً ، لكنها جعلت إيجاباً للحال في عرف أهل اللغة والشرع ، والعرف قاضٍ على الوضع) (5) ، (والبيع بلفظ الماضي وجد منها على وجه تحصل منه الدلالة على تراضيهما) (6).
ولكن اختلفوا في صيغة اللفظ بغير الماضي على ما يأتــي :
المذهب الأول : لا ينعقد البيع إلا باللفظ ولا ينعقد بالتعاطي ، ويتم به البيع علـى أساس العرف ، وهـو قول للإمام مـالك (7) ، والشافعية (8) ، والحنابلة (9) ، وهو ترجيح ابن تيمية (10) .
المذهب الثانــي : ينعقد البيع بالتعاطي ، وإلـى ذلك ذهب الحنفية (1) ، والمالكية (2) والحنابلة(3) ، والنووي من الشافعية (4).
الترجيح : يقول ابن تيمية : (ما لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم) (5) ، اكتفاء بالتراضي في البيع لقولـه تعالـى : ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭼ(6).
ولم يشترط في التجارة إلا التراضي ، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة ، وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة ، أو طيب نفس المتبرع بتبرع ، ثبت حله بدلالة القرآن ، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله (7) .
أدلة أصحاب المذهب الأول ومناقشتها : استدل أصحاب القول الأول بأدلة منها :
1- قوله سبحانه وتعالى : ﭽ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭼ (8).
وجـه الدلالة :
الاستدلال بعموم الآية من عدم تحديد صيغة لألفاظ البيع ، وهذا يقتضي الاطلاق في صيغة التعامل به ، (والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك ، ولأن البيع كان موجوداً بينهم معلوماً عندهم ، وإنما علق الشرع عليه أحكاماً وأبقاه على ما كان) (9) ، والمقصود أنه لم تستجد له صيغة تحدد التعامل به .
2- استدلوا بالعرف : (اللزوم هنا لأجل العرف في البيع) (1) ، وقد قال الإمام النووي في المجموع : (وهذا هو المختار ، لأن الله تعالى أحل البيع ولم يثبت في الشرع لفظاً له فوجب الرجوع الى العرف) (2) ، والقاعدة تقول : (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) (3) .
(كل ما ورد به الشرع مطلقاً ولا ضابط له فيه ، ولا في اللغة يرجع فيه الى العرف) (4) .
أدلة أصحاب المذهب الثاني ومناقشتها :
(وصورة المعاطاة أن يعطيه درهماً أو غيره ويأخذ منه شيئاً في مقابلته ولا يوجد لفظ ، أو يوجد لفظ من أحدهما دون الآخر فإذا ظهر والقرينة وجود الرضا من الجانبين حصلت المعاطاة) (5) .
1- استدلوا بقوله تعالى : ﭽ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭼ (6) .
وجـه الدلالة : عموم الآية يشير إلى حل البيع بأية صيغة كانت ما لم تتعارض مع أصول الشريعة ، فأي بيع هو جائز بدليل تحريم الربا لأنه نوع من أنواع البيوع ، والذي يشمل زيادة من غير عوض وأنه كان موجوداً في الجاهلية فنهي الشارع عنه ولم ينه عن بقية البيوع الأخرى ، فدل على جواز البيع من غير صيغة محددة.
2- استدلوا بالمعقول : (وإذا وجد ما يدل على البيع من المساومة والتعاطي ، قام مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه) (1) ، (ولأن المعنى هو المعتبر في انعقاد البيع بالتعاطي في النفيس والخسيس وهو الصحيح لتحقق المراضاة) (2) .
وقد جاء في البناية : (أن لسان الحال انطق من لسان المقال ، وأصدق منه ، فأقيمت الدلالة الحالية مقام المقالية) (3) .
ما دام الشارع الحكيم لم يتعبدنا بصيغة معينة أو محددة ، فان أي معنى يؤدي إلى فهم المقصود من التصرف على أنه إرادة البيع أو الشراء فإنه ينفذ فيه البيع ، ولفهم المعنى من خلال هذه التصرفات مع تحقق المراضاة لقـوله تعالى : ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭼ (4) ، فإن المعاطاة تحقق هذه المعاني فيتم البيع .
الترجيح
والذي أميل إليه هو التزام صيغة الماضي (بعت واشتريت) في الأمور النفيسة النادرة التعامل لما لها من قيمة في نفوس الناس ، لما يأتــي :
1- (أن اللفظ بالماضي دليل على العزيمة المسبقة على النطق وإرادة البيع ، فيتم الركن ، لأن هذه الصيغة وإن كانت ماضياً لكنها جعلت إيجاباً للحال في عرف أهل اللغة والشرع ، والعرف قاضٍ على الوضع) (5) .
2- (البيع بلفظ الماضي وجد منهما على وجه تحصل منه الدلالة علـى تراضيهما) (6) ، ولأن التراضي هو شرط في شرعية البيع لقوله تعالى : ﭽ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭼ (7) .
وجواز المعاطاة في الحاجات اليومية التي تعم بها البلوى ولا استغناء للناس عنها ، (فلو اشترط الإيجاب والقبول لبينهُ بياناً عاماً ، ولم يخف حكمه ، ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر ولم ينقل إنكاره فكان ذلك إجماعاً ) (1) . ومعلوم أن السوق هو محل بيع الحاجات اليومية الرخيصة التي يناسبها البيع بالمعاطاة ، والله أعلــم .
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع : 5/133 .
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد : للإمام القاضي أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي الأندلسي الشهير بابن رشد الحفيد ، (ت595هـ) ، دار الفكر ، (ب-ت) : 2/141.
(3) المجموع : 9/162 .
(4) الشرح الكبير : 5/220-221 .
(5) الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك : 3/15 .
(6) بدائع الصنائع : 5/133 .
(7) الشرح الصغير : 3/15 .
(8) المجموع : 9/162 .
(9) الشرح الكبير : 5/221 .
(10) مجموع الفتاوى : 29/13 .
(1) الهداية شرح بداية المبتدي : للإمام برهان الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر الفرغاني المرغيناني ، (ت 593هـ) ، تحقيق : محمد عدنان درويش ، طبعة شركة الأرقم ، بيروت ، لبنان : 3/23.
(2) الشرح الصغير : 3/15 .
(3) المغني : 5/220 .
(4) المجموع : 9/162 .
(5) مجموع الفتاوى : 29/16 .
(6) سورة النساء : من الآية (29) .
(7) مجموع الفتاوى : 29/155 .
(8) سورة البقرة : من الآية (275) .
(9) المغني : 5/221 .
(1) شرح حدود ابن عرفة : 331 .
(2) المجموع : شرح المهذب : 9/162 .
(3) موسوعة القواعد الفقهية ، جمع وترتيب د. محمد صدقي بن احمد ، مؤسسة الرسالة : 11/749 .
(4) المصدر نفسه : 11/306 .
(5) المجموع : 9/163 .
(6) سورة البقرة : من الآية (275) .
(1) المغني : 5/221-222 .
(2) الهداية : 3/23 ، وينظر : الاختيار لتعليل المختار : عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي ، (ت 683هـ) ، تحقيق : بشار بكري إعرابي ، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ، (ب – ت) : 2/253 .
(3) البناية شرح الهداية : 7/130 هامش .
(4) سورة النساء : من الآية (29) .
(5) بدائع الصنائع : 5/133 .
(6) المغني : 5/220 .
(7) سورة النساء : من الآية (29) .
(1) المغني : 5/221-222 .