تقديم الأقرأ على الأفقه في امامة الصلاة

0
143

من هو الأحق بأمامة المسلمين في الصلاة؟ روي في ذلك عن أبى مسعود الأنصارى t قال: قال رسول الله r:(( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا فى القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا فى السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا فى الهجرة سواء فأقدمهم إسلاما)).([1]) فقدم الرسولr اقرؤهم لكتاب الله، ولكن قيل المراد به الافقه. وقيل هو على ظاهره. بذلك اختلف الفقهاء الى اربعة مذاهب:([2])

المذهب الاول: ان الذي يكون احق بالامامة هو اقرؤهم لكتاب الله.

وهذا ما رجحه الامام المباركفوري حيث قال:(( قلت القول الظاهر الراجح عندي هو تقديم الأقرأ على الأفقه، وقد عرفت في كلام الحافظ أن محل تقديم الأقرأ حيث يكون عارفا بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة)).([3])

وبه قال سفيان الثوري، واسحاق، وابن المنذر، والاحنف بن قيس، وابن سيرين.([4])              واليه ذهب اكثر الحنابلة وهو المذهب الصحيح عنهم،([5])وهو مذهب ابو يوسف من الحنفية،([6]) والزيدية.([7]) والظاهرية.([8])

المذهب الثاني: إن الذي يكون احق بالامامة هو الافقه.

وبه قال الاوزاعي وابو ثور.([9]) واليه ذهب الجمهور من الحنفية،([10])والمالكية،([11]) وجمهور الشافعية.([12])

المذهب الثالث: ان الاورع مقدم على الأفقه والاقرأ.

وبه قال الشيخ ابو محمد الجويني، والبغوي وهو ما جزم به.([13]) وهو قول الامامية.([14])

المذهب الرابع: الأسن مقدم على الافقه والاقرأ وغيرهما.

وبه قال الرافعي من الشافعية.([15])

الادلة ومناقشتها

أدلة المذهب الاول

استدل اصحاب المذهب الاول القائلون بأن الأقرأ مقدم على الافقه في امامة الناس في الصلاة بأدلة نقلية، منها:

1- حديث ابي مسعود الانصاريt قال: قال رسول اللهr:(( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فأن كان في القراءة سواء فأعلهم بالسنه، فأن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم سلما…)) قال : الأشج في روايته سلماً سناً .([16])

وجه الدلالة:

يدل الحديث على أن الاقرأ مقدم على الافقه كما هو ظاهر وواضح من منطوق الحديث.

ويجاب عنه:

قَدّم النبيr الاقرأ في الحديث، لان الاقرأ في ذلك الزمان كان أعلم، لتلقيهم القرآن بمعانيه وأحكامه، فأما في زماننا فقد يكون الرجل ماهراً في القرأن ولاحظ له من العلم، فكان الاعلم أولى.([17]) وبمثله قال الشافعي.([18])

ويجاب عن جوابهم هذا من الوجهين:

الاول: أن هذا خطاب عام للامة كلهم، فلا يختص بالصحابة.

والثاني: أنه فرق بين الاقرأ والاعلم بالسنه، فقدم الاقرأ عليه.([19])

2- حديث ابي سعيدالخدريt قال: قال رسول اللهr:(( اذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بأمامة أقرؤهم)).([20])

وجه الدلالة:

يدل الحديث على أن الاحق بالامامه هوالاقرأ، وهذا ظاهر وواضح من منطوق الحديث.

3- حديث ابي موسى الاشعريt قال: قال النبيr:((ثم ليؤمكم أقرؤكم….)) الحديث.([21])

وجه الدلالة:

يدل الحديث على تقديم الاقرأ على الفقه في الصلاة، كما هو ظاهر وواضح من منطوق الحديث.

4- حديث ابن عباسt قال: قال رسول اللهr:(( ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم قراؤكم)).([22])

وجه الدلالة:

في الحديث قدم رسول الله r أخيار الناس في الاذان، ثم قدم بعد ذلك القراء على غيرهم  في امامة الصلاة، فدل الحديث على ان الاقرأ مقدم على الفقيه وغيره.

 أدلة المذهب الثاني

أستدل اصحاب المذهب الثاني القائلون بأن الافقه مقدم على على الاقرأ في امامة الناس في الصلاة بأدلة نقليه وعقلية. فمن الادلة النقلية:

1- حديث ابي موسىt قال: مرض النبيr فأشتد مرضه، فقال:(( مروا أبا بكر فليصل بالناس))، قالت عائشة: انه رجل رقيق، اذا قام مقامك لم يستطع ان يصلي بألناس، قال: ((مروا ابا بكر فليصل بالناس))، فعودت، فقال:(( مري أبا بكر فليصل بالناس، فأنكن صواحب يوسف))، فأتاه الرسولr، فصلى بالناس في حياة النبيr)).([23])

وجه الدلالة:

يدل الحديث على أن الافقه أحق من الاقرأ؛ لأن النبي r قدم ابا بكر الصديقtمرارا وتكرارا مع وجود من هو اقرأ من ابي بكر؛ وهو أُبي بن كعب، وانما قدم ابا بكر لعلمه وفضله([24]).  ومايدل على ان أُبي ابن كعب كان أقرأ الصحابه حديث ابن عباسt قال:

قال عمرt:(( أُبي أقرونا))،([25]) فيكون الافقه مقدم على الاقرأ، وهذا مافعلهr.

ويجاب عنه:

بما خرج به الامام أحمد هذا الحديث: بأنهr أراد من تقديم أبي بكر الصديقtالتنبيه

على الخلافه،([26]) ويكون ما أرادهr ان من هو اصلح للخلافه وأقوم بها أبو بكرt فلذلك قدمه في الصلاة. وما قاله النووي بعد ذلك ان قوله في حديث ابي مسعود الانصاري:           (( فأن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنه، فأن كانوا في السنة سواء فأقدمهم في الهجرة))،  يدل على تقديم الاقرأ مطلقا.([27])

2- حديث عقبه بن عمرو قال: قال رسول اللهr:(( يؤم القوم أقدمهم هجرة، فأن كانوا في الهجرة سواء فأفقهم في الدين، فأن كانوا في الدين سواء فأقرؤهم للقران، ولايؤمن الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته)).([28])

وجه الدلالة:

يدل الحديث على الافقه مقدم على الاقرأ، حيث ذكره النبيr بعد الأقدم في الهجرة، ثم ذكرالأقرأ، كما هو ظاهر وواضح من منطوق الحديث.

ويجاب عنه:

بأن هذاالحديث مخالف للأحاديث الصحيحه،([29]) فقد ذكر في الاحاديث الصحيحه أن الاقرأ مقدم على الأفقه.

3- حديث ابن جريج عن عطاء قال:(( يؤم القوم أفهمهم)).([30])

وجه الدلالة:

يدل الحديث على تقديم الافقه، كماهو ظاهر وواضح من منطوق الحديث.

ومما أستدلوا به من المعقول:

ان الافقه مقدم على الاقرأ، وذلك لأن القراءة يحتاج اليها في ركن واحد في الصلاة، والعلم يحتاج اليه في جميع الصلاة، والخطأ المفسد للصلاة في القراءة لايعرف الا بالعلم، فيكون الفقيه مقدم على الاقرأ، لانه أعرف بتلك الامور من القارئي.([31])

ويجاب عنه:

قال أبن حجر: ولا يخفى أن محل تقديم الاقرأ انما هو حيث يكون عارفا بما يتعين معرفته من احوال الصلاة، فأن كان جاهدا بذلك فلا يقدم اتفاقا.([32]) وهذا ما نصه الامام احمد بن حنبل.([33])

    أدلة المذهب الثالث:

    أستدل أصحاب المذهب الثالث القائلون بأن الاورع مقدم على الاقرأ والأفقه بالمعقول: من أن معظم مقصود الصلاة الخشوع والتدبر ورجاء أجابة الدعاء، والاورع أقرب الى هذا، وأما القراءة فالقارئي عارف بالواجب منها، والفقيه يعرف منه المحتاج اليه غالبا، اما ما يخاف حدوثه في الصلاة من فهم يحتاج الى فقه كثير، فأمر نادر لا يفوت مقصود

الورع بأمر متوهم.([34])

ويمكن ان يجاب عنه:

أن الاورع لم يثبت بالاحاديث الصحيحة ولاغيرها وقد ثبت بأن الاقرأ مقدم على الاورع والأفقه وغيرهما، وهذا ثابت بالاحاديث الصحيحه.

      أدلة المذهب الرابع

استدل اصحاب المذهب الرابع القائلون ان الاكبر سنا مقدم على القرأ والافقه وغيرهما بحديث مالك بن الحويرث قال: قدمنا على النبيr ونحن شببة، فلبثنا عنده نحواً من عشرين ليلة، وكان النبيr رحيما فقال:(( لو رجعتم الى بلادكم فعلمتموهم، مروهم بالصلاة فليصلوا صلاة كذا وصلاة كذا في حين كذا، واذا حضرت الصلاة فليوذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)).([35])

وجه الدلالة:

يدل الحديث على ان الاكبر سنا هو المقدم في امامة الصلاة على الاقرأ والأفقه وغيرهما، وهو ظاهر وواضح من منطوق الحديث.

ويجاب عنه:

قال النووي: واما حديث مالك بن الحويرث فأنما كان خطابا له ولرفقته، وكانوا في

النسب والهجرة والاسلام متساوين، وظاهر الحديث في الصحيحين أنهم كانوا في الفقه والقراءة سواء، فانهم هاجروا الى النبيr، وهم أقاموا عنده عشرين ليلة، وانهم صحبوه صحبة واحدة، واشتركوا في المدة والسماع والرؤيه، فالظاهر تساويهم في جميع الخصال الا السن، فلهذا قدمهr، وهذه قضية غير محتملة لما ذكرته، أو هو متعين، فلا يترك حديث ابن مسعود الصريح المسبوق لبيان الترجيح بهذا، والله اعلم.([36])

                                     الترجيح

  بعد العرض للاقوال وادلتها، واجراء المناقشة لها، فالرأي الراجح هو القول القائل بأن الاقرأ مقدم على الأفقه وغيره، وذلك للاسباب الاتية:

1- لانه منصوص عليه من الرسولr كما ثبت بالاحاديث الصحيحة والصريحة، والتي لا تحتمل التأويل.

2- امكانية التأويل الافقه هنا بالاقرأ او بالاعلم في فقه الصلاة، وخصوصا ان لهذا التأويل ما يسنده من الادلة.

3- ان القراءة ركن مهم في الصلاة، ولا يشترط في إمام الصلاة ان يكون فقيها؛ بل يكفي ان يعرف فقه الصلاة، ومنها القراءة، مع ما يوجب ذلك من ضبط للقراءات المتواترة، واتقان الاداء والتجويد، وهذا ما قد يصعب على الفقيه. وكذلك الحال، بل ربما اشد مع الاورع، والاكبر سنا.

4- ويمكن ان نقول ان حديث الباب جاء في تعيين الامام اذا وجد اكثر من شخص مؤهل للامامة، وان يراعى هذا الترتيب الذي قال بهr، من اجل حسم أي خلاف في اختياره.

([1]) اخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة- باب من احق بالامامة، رقم الحديث 1564- 2/133.

([2]) ينظر: فتح الباري، لابن حجر 2/171.

([3]) تحفة الاحوذي 2/29.

([4]) ينظر: الجامع لأحكام القرآن ، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت671هـ) دار الشعب – القاهرة .

 1/352. المجموع 4/282. نيل الاوطار 3/193.

([5]) ينظر: المغني 3/415. والفروع 3/5. الانصاف 2/175. الروض المربع 1/94. اخصر المختصرات 1/121. الشرح الممتع 4/206 ، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع ، لعبد الرحمن بن محمد العاصمي الحنبلي النجدي ، (ت1392هـ) : 2/296 .

([6]) ينظر: تبين الحقائق 2/153. والبحر الرائق 1/368.

([7]) ينظر: السيل الجرار 1/151.

([8]) ينظر: المحلى 7/420.

([9]) ينظر: تفسير القرطبي 1/352. المجموع 4/282.

([10]) ينظر: بدائع الصنائع 2/128. شرح فتح القدير 1/348. تبين الحقائق 2/153. العناية شرح الهداية 2/60. البحرالرائق1/367، تحفة الملوك، لمحمدبن ابي بكربن عبد القادر الرازي. ت666هـ، تحقيق الدكتور عبدالله  نذير احمد،1/88، دارالبشائرالاسلامية- بيروت- لبنان، س ط 1417هـ.

([11]) ينظر: بداية المجتهد 1/144، جامع الامهات 1/41، مواهب الجليل2/470، حاشية الدسوقي3/309، منح الجليل 2/358.

([12]) ينظر: الحاوي الكبير2/800، الوسيط2/228، المجموع 4/282،اسنى المطالب 1/219، مغني المحتاج 3/244، حاشية الجمل4/492.

([13]) ينظر: المجموع 4/283.

([14]) ينظر: تهذيب الاحكام 7/59 ، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي ، للشيخ أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي (ت 598ه‍) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم ، ط/2 (1410ه‍) : 1/9 – 1/396 .

([15]) ينظر: المجموع 4/283.

([16]) أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الصلاة ، باب من أحق بالإمامة الحديث :2/133 ، برقم (1564) .

([17]) ينظر: بدائع الصنائع 2/128.

([18]) ينظر: فتح الباري، لابن رجب 4/120.

([19]) المصدر نفسه ، المكان نفسه .

(5) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة- باب من أحق بالامامة، رقم الحديث 1561- 2/133.

([21]) اخرجه الامام احمد في مسنده، رقم الحديث1968- 4/409، قال شعيب الارناؤوط بهامش تحقيقه للكتاب: اسناده صحيح على شرط مسلم.

(3) أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الاذن- باب فضل الاذان وثواب المؤذنين، رقم الحديث726- 1/466.

وأخرجه ابوداود في سننه، كتاب الصلاة، – باب من احق بالامامه، رقم الحديث590-1/230. وأخرجه ابو يعلى في مسنده، باب اول مسند ابن عباس، رقم الحديث 2343- 4/231، قال حسين سليم أسد بهامش تحقيقه للكتاب: اسناده ضعيف.  قال المنذري: واخرجه ابن ماجه وفي اسناده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي، وقد تكلم فيه ابوحاتم وابوزرعه الرازيان، وقد ذكر الدارقطني ان الحسين بن عيسى تفرد بهذاالحديث عن الحكم بن أبان((عون المعبود2/299).

([23]) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي- باب أهل العلم أحق بالأمامة، رقم الحديث678- 1/172.

واخرجه مسلم، كتاب الصلاة- باب أستخلاف الامام…. الخ، رقم الحديث 975- 2/25.

([24]) ينظر: فتح الباري، لابن رجب 4/117.

([25]) أخرجه البخاري، كتاب بدءالوحي- باب القراء من اصحاب النبيr، رقم الحديث 5005- 6/230.

([26]) ينظر: فتح الباري، لأبن رجب4/120.

([27]) ينظر: فتح الباري، لأبن حجر2/171.

([28]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، باب من أسمه عقيل، رقم الحديث 14043- 12/178. واخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الصلاة، باب من احق بالأمامة، رقم الحديث 1095- 3/203، قال ابن حجر العسقلاني : ((اخرجه من وجه اخر فيه ضعف وذكر الحديث ثم قال بعد ذلك : وهذا مخالف للأحاديث الصحيحه)) الدرايه في تخريج أحاديث الهدايه :1/168 .

([29]) ينظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية 1/168.

([30]) أخرجه ابن ابي شيبة في مصنفه، كتاب الصلاة- باب من قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، رقم الحديث 3479- 1/344.

([31]) ينظر: المبسوط للسرخسي 1/74.

([32]) ينظر: فتح الباري، لابن حجر2/171.

([33]) ينظر: فتح الباري لابن رجب 4/118.

([34]) ينظر: المجموع 4/118.

([35]) اخرجه البخاري، باب اذا استووا في القراءة فليؤمهم اكبرهم، رقم الحديث685-1/175.

([36]) ينظر: المجموع 4/283.