اختلف العلماء فيمن ادرك الامام في شيء من صلاة الجمعة؛ هل يجزي له ان يدرك أي شيء من الصلاة وتكون له جمعة؟ او أنَّ عليه ان يدرك ركعة من الصلاة حتى تكون له جمعة، وان لم يدركها يصلي الظهر اربعة ركعات. الى مذهبين:
المذهب الاول: ان من ادرك شيئا من صلاة الجمعة فقد ادركها ولا يصلي ظهرا.
وهذا ما رجحه الامام المباركفوري حيث قال:(( والاصح عندي ما ذهب اليه ابو حنيفة؛ من ان من ادرك مع الامام شيئا من صلاة الجمعة، ولو في التشهد، يصلي ما ادرك معه، ويتم الباقي، ولا يصلي الظهر، لاطلاق:(( ما ادركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)). فأما ذهب اليه الاولون فلم اجد حديثا صريحا يدل عليه)).([1])
وبه قال الحكم، وحماد.([2]) واليه ذهب الحنفية.([3])
المذهب الثاني: من ادرك ركعة من الصلاة فقد ادرك الجمعة، ومن ادرك اقل من ذلك صلى الظهر اربع ركعات.
روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وانس بن مالكy.
وبه قال ابن المسيب، وعلقمة، وعروة، والزهري، والنخعي، الثوري، واسحاق.([4])
واليه ذهب المالكية،([5]) والشافعية،([6]) والحنابلة،([7]) والزيدية،([8]) وفي الرواية الثانية عن
الامام محمد بن الحسن من الحنفية.([9]) والظاهرية.([10]) والامامية.([11])
الأدلة ومناقشتها
أدلة المذهب الاول:
استدل اصحاب المذهب الاول القائلون ان من ادرك مع الامام شيئا من صلاة الجمعة، ولو في التشهد، يصلي ما ادرك ويتم الباقي، بأدلة نقلية وعقلية، فمن الادلة النقلية:
1- حديث ابي هريرة t قال: سمعت رسول اللهr يقول:(( أذا اقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، واتوها تمشون وعليكم السكينة، فما ادركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)).([12])
وجه الدلالة:
الحديث باطلاقه يشمل صلاة الجمعة، اذ لا شك ان مراده ما فاتكم من صلاة الامام، بدليل
قوله:(( فما ادركتم فصلوا))، فأن معناه من صلاة الامام، والذي فات من صلاة الامام هو الجمعة، فيصلي المأموم الجمعة، ثم ان النبيr امر المسبوق بقضاء ما فاته، وانما فاته صلاة الامام وهي ركعتان.([13])
2- حديث ابي هريرةt قال: قال رسول اللهr:(( من ادرك الامام جالسا قبل ان يسلم فقد ادرك الصلاة)).([14])
وجه الدلالة:
يدل الحديث بأطلاقه على ان المسبوق يدرك الصلاة ولو كان في التشهد قبل التسليم، فهو يشمل ايضا صلاة الجمعة، كما هو ظاهر وواضح من الحديث.
ويجاب عنه:
ان نوحا متروك، وقد وهم في لفظه، وخالف جميع اصحاب الزهري، ووهم ايضا في اسناده، فأنه عن ابي سلمة لا عن سعيد بن المسيب، مع انه قد روي عن مالك والاوزاعي عن الزهري عن سعيد وليس بمحفوظ. وروى أبو الحسن بن جوصا في مسند الأوزاعي: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة: حدثنا أبي: عن أبيه يحيى بن حمزة : حدثني الأوزاعي: أنه سأل الزهري عن رجل أدرك من صلاة الجمعة ركعة؟ فقال: حدثني أبو سلمة: أن أبا هريرة قال: قال رسول اللهr:(( من أدرك من صلاة ركعة فقد أدرك فضيلة الجماعة)). وهذا اللفظ أيضا غير محفوظ. وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ضعفوه.([15]) وبهذا يتبين ان هذا الحديث ضعيف ولا يصلح الاحتجاج به.
اما ما استدلوا به من المعقول:
هو بإدراك التشهد مدرك للجمعة بدليل أنه ينويها دون الظهر، حتى لو نوى الظهر لم يصح اقتداؤه به، ثم الفرض بالاقتداء تارة يتعين إلى الزيادة، كما في حق المسافر يقتدي بالمقيم، وتارة إلى النقصان كما في حق الجمعة. ثم في اقتداء المسافر بالمقيم لا فرق بين الركعة وما دونها في تعين الفرض به فكذا هنا.([16])
أدلة المذهب الثاني
استدل اصحاب المذهب الثاني القائلون بأن من ادرك ركعة من الصلاة فقد ادرك الجمعة، ومن ادرك اقل من ذلك صلى الظهر اربعة ركعات، بادلة نقلية، منها:
1- حديث ابي هريرةt: ان رسول اللهr قال:(( من ادرك ركعة من الصلاة فقد ادرك الصلاة))، وفي لفظ مسلم:(( مع الامام)).([17])
وجه الدلالة:
الحديث باطلاقه يدل على جميع الصلوات من الجمعة وغيرها، فلا تدرك مع الامام الا بادراك ركعة منها، كما هو ظاهر وواضح من منطوق الحديث.
ويجاب عنه:
ان الحديث مطلق يفيد ان حكم جميع الصلوات واحد، وحكم سائر الصلوات انه اذا ادرك
شيئا من الصلاة مع الامام، ولو في التشهد يصلي ما ادرك معه ويتم الباقي و لا يزيد على ذلك، فكيف يزيد في الجمعة باطلاق الحديث، والمفهوم عندهم لا عبرة به، ولو كان معتبرا لا يقدم على الصريح.([18])
2- عن ابي هريرةt قال: قال رسول اللهr:(( من ادرك من الجمعة ركعة صلى اليها اخرى، فأن ادركها جلوسا صلى الظهر اربعا)).([19])
وجه الدلالة:
يدل الحديث على ان من ادرك مع الامام ركعة من صلاة الجمعة؛ جاء بأخرى واتم صلاته، ومن لم يدرك الامام راكعا، بل ادركه جالسا؛ فعليه ان يُصليها ظهرا اربع ركعات، كما هو ظاهر وواضح من منطوق الحديث.
واجاب الحنفية عن الحديث:
تعلقهم بحديث الزهري غير صحيح، فإن الثقات من أصحاب الزهري كمعمر والأوزاعي ومالك رووا أنه قال:(( من أدرك ركعة من صلاة فقد أدركها))، فأما حديث الجمعة فهذه الزيادة ما رواه الا ضعفاء أصحاب الزهري، وقوله:(( ومن أدركهم جلوسا صلى أربعا)) زيادة، وان ثبتت الزيادة فتأويلها: وان ادركتهم جلوسا قد سلموا من الصلاة، فبهذه الحالة عليه ان يصلي الظهر اربع ركعات.([20])
3- حديث ابن عمر قال: قال رسول اللهr:(( من ادرك ركعة من الصلاة الجمعة وغيرها، فليضف اليها اخرى، وقد تمت صلاته))، قال عمرو:(( وقد ادرك الصلاة)).([21])
وجه الدلالة:
يدل الحديث على ان صلاة الجمعة لا تتم الا بأدراك ركعة مع الامام، وكذلك غير الجمعة، كما هو ظاهر وواضح من منطوق الحديث.
ويجاب عنه:
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:(( قال ابن أبي داود والدارقطني: تفرد به بقية عن يونس، وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: هذا خطأ في المتن والإسناد، وإنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا:(( من أدرك من صلاة ركعة فقد أدركها))، وأما قوله (من صلاة الجمعة) فوهم. قلت: إن سلم من وهم بقية؛ ففيه تدليس التسوية؛ لأنه عنعن لشيخه. وله طريق أخرى أخرجها ابن حبان في الضعفاء من حديث إبراهيم بن عطية الثقفي عن يحيى بن سعيد عن الزهري به قال، وإبراهيم منكر الحديث جدا، كان هشيم يدلس عنه أخبارا لا أصل لها، وهو حديث خطأ….. وذكر الدارقطني في العلل الاختلاف فيه وصوب وقفه)).([22])
الترجيح
بعد العرض للاقوال وادلتها، واجراء المناقشة عليها، فالرأي الراجح هو ما ذهب اليه الامام ابو حنيفة ومن تابعه، وهو: إن من ادرك مع الامام شيئا من الصلاة، ولو في التشهد، يصلي ما ادرك، ويتم الباقي، ولا يصلي الظهر. وذلك للاسباب الاتية:
1- لم يثبت بالدليل القاطع ان من لم يدرك ركعة مع الامام في صلاة الجمعة، فعليه ان يصلي الظهر، لذلك وجب حمل هذه المسألة على اصلها، وهي ان من ادرك شيئا من الصلاة مع الامام فقد ادرك الصلاة. والجمعة داخلة في الحكم، اذ لا يوجد ما يستثنيها.
2- ان الادلة التي احتج بها اصحاب المذهب الثاني لا تخلوا من العموم او الاطلاق، او ان في بعضها ضعفا واضطرابا في السند او المتن.
([1]) ينظر: تحفة الاحوذي 3/51.
([3]) ينظر: المبسوط للسرخسي 2/63. بدائع الصنائع 3/50. العناية شرح الهداية 2/411.
([5]) ينظر: المدونة 1/229. مواهب الجليل 2/47. الفواكه الدواني 2/604. حاشية الدسوقي 3/347.
([6]) ينظرالام1/206،الحاوي الكبير 2/70،المهذب في فقه الامام الشافعي1/115،المجموع 4/556.
([7]) ينظر: المغني 2/185، المبدع 2/140، الروض المربع 1/108. مطالب اولي النهى 4/157.
([8]) ينظر: السيل الجرار 1/185.
([9]) ينظر: المبسوط للسرخسي 2/63، بدائع الصنائع 3/50، العناية شرح الهداية 2/411.
([11]) ينظر: الاستبصار 2/343. المبسوط للطوسي 1/267.
([12]) اخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي- باب المشي الى الجمعة، رقم الحديث 908- 2/9. واخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة- باب استحباب اتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن اتيانها سعيا، رقم الحديث1389- 2/100.
([13]) ينظر: بدائع الصنائع 3/50، والعناية شرح الهداية 2/412.
([14]) اخرجه الدارقطني في سننه، كتاب الجمعة- باب من يدرك من الجمعة ركعة او لم يدركها، رقم الحديث 1605- 2/321. ولم يروه هكذا غير نوح بن ابي مريم وهو ضعيف الحديث متروك.
([15]) ينظر: فتح الباري لابن رجب 3/248 وما بعدها.
([16]) ينظر: المبسوط للسرخسي 2/63.
([17]) اخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب من ادرك من الصلاة ركعة، رقم الحديث 580- 1/151. واخرجه مسلم، باب من ادرك ركعة من الصلاة فقد ادرك تلك الصلاة، رقم الحديث 1402- 2/102.
([18]) ينظر: تحفة الاحوذي 3/50- 51.
([19]) اخرجه الدارقطني، كتاب الجمعة- باب من يدرك من الجمعة ركعة او لم يدركها، رقم الحديث 1597- 2/318. واخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الجمعة- باب من ادرك ركعة من الجمعة، رقم الحديث 5946- 3/203. قال المباركفوري:(( وأجيب عنه بأن هذا الحديث ضعيف، فإن ياسين ضعيف متروك، ولهذا الحديث طرق كلها معلولة، قال الحافظ في التلخيص بعد ذكرها: وقد قال بن حبان في صحيحه إنها كلها معلولة، وقال بن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث، إنما المتن:(( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها))، وذكر الدارقطني الاختلاف في علله، وقال الصحيح:(( من أدرك من الصلاة ركعة))، وكذا قال العقيلي)). تحفة الاحوذي 2/63.
([20]) ينظر: بدائع الصنائع 3/50-51. والعناية شرح الهداية 2/413.
([21]) اخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الصلاة- باب من ادرك ركعة من الصلاة، رقم الحديث 1540- 1/481. واخرجه الدارقطني، كتاب الجمعة- باب فيمن يدرك من الجمعة ركعة او لم يدركها، رقم الحديث 1625- 4/307.