صفات الخطيب الناجح

0
411

الخطيب الناجح لابد له من مؤهلات وصفات يتصف بها فهذا البحث هدية لكل من يريد أن يكون ناجحا

صفات الخطيب الناجح

 

بحــث مقدم

إلى إدارة المؤتمر العلمي الثاني

المقام في كلية الإمام الأعظم

فرع نينوى

والمـــوســـــوم

(الخطبة والخطيب بين الواقع والطموح)

 

قدمــه  الدكتور

حســـن سهـــيل عــبود ألجميلي

 

 

 

المقـــــدمـــــــة

 

الحمد لله حمد الشاكرين العارفين به المعرفين غيرهم من هو الله. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الذي فارق الجذع لمنبره فهدى العباد إلى الله.

وحنّ إليه الجذع شوقا ورقة

فقابله ضما فقر لوقته فرجّع كالعشار مرددا

لكل امرئ من دهره ما تعودا

   وعلى آله الطاهرين وصحبه الغر الميامين وعلى من سار على هديه وانتحى طريقه وبعد.

فإن من دواعي الفرح والسرور أن أشارك أخواني أرباب كلية الإمام الأعظم مؤتمرهم الثاني الذي وسموه بـ(الخطبة والخطيب بين الواقع والطموح) فاكتب عن الخطيب الناجح المقدَم بين الناس والمقدِم للناس فطالما ألهبت المشاعر خطب هؤلاء وقدمتهم نحو المعالي فقطفوا ثمارها وكثيرا ما جيّشت كلماتهم الجيوش ففتحوا البلاد أمام دين الله لينتشر بين ربوعه.

والخطيب الناجح هو قائد يتقدم الصفوف ويبين للناس مخاطر الحتوف التي تستقبلهم فلابد أن يكون ذا صفات عظيمة تميزه عن غيره من الخطباء الذين جل غايتهم الدنيا والشهرة فبذلوا لها ما يستطيعون ولم تؤثر بالسامعين كلماتهم ولم يصيبوا منها إلا ما كتبه الله.

وقد جعلت بحثي هذا مؤلفا من مقدمة ومبحثين وخاتمة.

المبحث الأول: أسميته الخطيب الناجح وتألف من مطلبين أولهما عرفت به الخطيب لغة واصطلاحا وثانيهما ذكرت فيه بعض الخطباء المشهورين من العرب وأنموذجا من خطبهم.

أما المبحث الثاني فقد جعلته معنونا بـ(صفات الخطيب الناجح) وقد تألف من ثلاثة مطالب الأول منها ذكرت فيه صفات الخطيب الخلقية غير المكتسبة والثاني ذكرت فيه الصفات المكتسبة والثالث ذكرت فيه بعض العوامل التي تعين الخطيب على إجادة الإلقاء.

أما الخاتمة فقد لخصت فيها ما توصلت إليه من نتائج في هذا البحث وأخيرا نسأل الله الباري أن ينعم على هذه الأمة بخطباء مخلصين عاملين ليرسموا لها الهداية ويمسحوا عنها دموع اليأس والحرمان ويربتوا على أكتاف الأمة لتطمينها وزرع الثقة فيها. آمين آمين.

 

 

المبحث الأول

الخطــــيب الناجــــــح

وقد تألف من مطلبين:

المطلــب الأول

تعـريـــــف الخطـــــيب

 

الخطبة لغة: الخطبة عند العرب الكلام المنثور المسجّع ونحوه والخطبة مثل الرسالة التي لها أول وآخر، ورجل خطيب.. حسن الخطبة([1]) ويقال خطبت على المنبر خطبة بالضم.. وخاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا([2])

فالخطيب هو الذي يلقي الخطبة.

الخطيب اصطلاحا: لا يتعدى عن المعنى اللغوي.

 

المطلــــب الثانـــــي

بعض من اشتهر من خطباء العرب ونماذج من خطبهم

لقد اشتهر العرب بالفصاحة وقوة البيان والخطابة فكانت القبائل العربية تتبارى بينها بالشعر والخطابة فأي عشيرة تملك خطيبا يدافع عنها ويرفع من شأنها فهي عشيرة أو قبيلة يحسب لها الحساب ومع هذا فقد برز عند العرب من الخطباء من ذاع صيته وشاع خبره الكثير وفي هذا المطلب سنذكر بعضا من هؤلاء.

1- قُس بن ساعدة الأيادي:

هو أسقف نجران وخطيب العرب وحكيمها ويقال أنه أول من خطب على شرف([3])واتكأ على سيف وقال في خطبته أما بعد. سمعه النبي  في عكاظ فأثنى عليه توفي سنة 600هـ وقد عمر طويلا([4]).

قال في إحدى خطبه (أيها الناس، اسمعوا وعوا، إنه من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة…)([5]).

 

2- سحبان بن وائل:

وهو سحبان بن زفر بن أياد الوائلي الخطيب المصقع المضروب به المثل في البلاغة والبيان نشأ في الجاهلية بين قبيلة وائل ولما ظهر الإسلام أسلم وتقلبت به الأحوال حتى لحق معاوية فكان يعده للملمات ويتوكأ عليه عند المفاخرة.. قدم وفد على معاوية فطلب سحبان ليتكلم، فقال احضروا لي عصا، قالوا: وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين قال وما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه، فضحك معاوية وأمر له بالعصا. فخطب ذلك اليوم من الظهر إلى العصر ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا تلكأ ولا ابتدأ في معنى وخرج عنه وقد بقي منه شيء… فدهش الحاضرون فقال له معاوية أنت أخطب العرب قال بل والعجم والأنس والجن… توفي سنة 54هـ.

قال في خطبة له:

(إن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار، أيها الناس: اتخذوا من دار ممركم لدار مقركم، تخرج منها أبدانكم، ففيها حييتم، ولغيرها خلقتم، إن الرجل إذا هلك، قال الناس: ما ترك؟ وقال الملائكة: ما قدم؟ قدموا بعضا يكن لكم ولا تخلفوا كلا يكن عليكم)([6]).

 

3- زياد بن أبيه:

هو أحد دهاة العرب وساستها وخطبائها وقادتها توفي بالكوفة في رمضان 

سنة 53هـ. ومن خطبه البليغة البتراء([7]) حيث قدم إلى البصرة واليا لمعاوية.

(أما بعد. فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، وألغي الموفي بأهله إلى النار ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام التي ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير كأنكم لم تقرؤوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول…)([8]).

 

4- طارق بن زياد:

هو أحد قواد جيش الوليد بن عبد الملك، وكان خطيبا مصعقا وبطلا مقداما بعيد الهمة، خرج من المغرب سنة 92هـ باثني عشر ألف مقاتل من مواطنيه يقلهم أسطول قوي قد جهز لذلك وقد عبر بهم البحر الأبيض المتوسط متجها إلى إسبانيا فلقيه ملك ذلك المكان (رودريك) وقبيل المعركة خطب بالناس فقال:

(أيها الناس أين المفر البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلتم عدوكم بجيشه وأسلحته وقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم…)([9]).

فكان لهذه الخطبة الأثر البليغ في إلهاب حماسة المقاتلين فانتصروا نصرا مؤزرا.

وأخيرا أريد التنويه إلى أن أخطب الناس على وجه البسيطة هو رسول الله  فقد أتاه الله جوامع الكلم وفي دراسة سيرته وخطبه إرواء للغليل وشفاء للعليل ومن اقتدى به في مجال خطبه كان من أعظم خطباء عصره وأرفعهم قدرا.

 

المبحـــث الثانــــي

صفــــات الخطــــيب الــناجــــح

 

الخطيب الناجح له صفات تميزه عن غيره من الخطباء الذين اتخذوا الخطابة مهنة للتكسب أو مكانا للتفاخر وفي هذا المطلب سلطت الضوء على هذه الصفات لعلنا نسهم في أن يترفع خطباؤنا اليوم من أن يكونوا من ضمن خطباء الفتنة الذين حذر منهم النبي  وأخبر بخروجهم في أمتنا. وقد جعلت المبحث هذا على ثلاث مطالب.

 

المطلب الأول

الصفات الخلقية غير المكتسبة للخطيب الناجح

 

1- الاستعداد الفطري (الموهبة):

الخطابة موهبة من الله تبارك وتعالى، ولا بد أن تكون فطرة الخطيب على استعداد لهذا الفن البليغ، ينبع من نفسه، والناس متباينون في استعدادهم الفطري فمنهم من لا تهزه المناظر الرائعة أو المروعة، ومنهم من يصمت أمام هذه المناظر دهشا مذهولا وفيهم من تجيش بالأحاسيس نفسه، فيعبر عن جيشانه بكلمات مصورة لما يحس والخطيب الناجح من هؤلاء الذين إذا ما ثارت عواطفهم عبروا وصوروا([10]) ومن أبرع خطباء العرب قس بن ساعده الأيادي خطب الناس في سوق عكاظ استوحى خطبته من خلال تأثره بما يرى من حوله من متغيرات الزمان فقال: (يا أيها الناس اسمعوا وعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات… ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ ارضوا فأقاموا؟…)([11]) وهذا ابن عياش العبدي يجيب معاوية بن أبي سفيان  وقد سأله ما هذه البلاغة التي فيكم؟ بقوله (شيء تجيش به صدورنا فنقذفه على ألسنتنا)([12]).

 

2- الشجاعة ورباطة الجأش:

الشجاعة من صفات الخطيب الناجح، لأنها تمكنه من الهيمنة على الموقف والقدرة على الإلقاء، بينما يكون الخوف سببا في اضطراب الخطيب وزعزعته، وحبس الكلمات في حلقه، وانقطاع نفسه، وإنهاء خطبته في أسرع وقت([13]) فالخطابة لها رهبة والمواقف مختلفة فمنها ما هو رهيب ومنها ما هو مدهش وذلك يحتاج إلى شجاعة قال الكميت بن زيد([14]) وكان خطيبا (إن للخطبة صعداء، وهي على ذي اللب أرمى)([15]) ومعنى أرمى أي أشد وقد تكلم صعصعة بن صوحان عند معاوية، فعرق فقال معاوية: بهرك القول؟ فقال صعصعة إن الجياد نضاحة بالماء)([16]) ومعنى ذلك أن الجياد إذا حملت الأثقال عرقت ونضحت بالماء فكذا الخطيب فالخطبة حمل ثقيل تحتاج إلى تحمل وشجاعة.

 

3- سرعة البداهة:

وهي صفة عظيمة يجب توافرها في الخطيب ليكون ناجحا وألمعيا لأنها تنقذه من المواقف المحرجة فلربما يعرض له عارض أو يحدث له حادث أثناء الخطبة يربكه ويقطع عليه تسلسل كلامه ويذهب عطر الخطبة ورونقها وتذهب بذلك الفائدة منها، وعندما يكون الخطيب سريع البديهة ينقذ نفسه من هذه المواقف بل ويحول هذه المواقف إلى شذرات جمال يرصع بها خطبته فقد روي أن أبا جعفر المنصور خطب فحمد الله وأثنى عليه، فقال أحد السامعين (أذكرك من ذكرت به) فأجاب أبو جعفر بلا تفكير ولا روية (سمعا سمعا)([17])¬¬ ثم عاد إلى خطبته وكانت نقطة جمال وروعة في هذه الخطبة.

ومثله خطب خطيبا يوما بجمع من الناس فاعترض له أحدهم قائلا: هذا غير صحيح فأجاب الخطيب على الفور دونما خجل أو تردد: هذا رأيك؟ وتابع خطبته وقد كان سيدنا علي بن أبي طالب يخطب فسأله سائل عن مسألة فرضية فأجابه ارتجالا من غير تأمل: صار ثمن المرأة تسعا ثم مضى في خطبته وسميت هذه المسألة بـ(المنبرية)([18]).

 

المطلــــب الثانــــي

الصفـــات المكتســبة للخطـــيب الناجــــح

 

1- الإخلاص:

لقد امتدح الله المخلصين من عباده وأثنى عليهم فقال ((إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا))([19]).

فالإخلاص شرط أساسي للخطيب الناجح الذي عليه أن يتجرد من حظوظ نفسه ويلتجئ بكليته إلى الله عز وجل، فإن آفة الخطابة الغرور فقد كان النبي  يعلم الصحابة أن يقولوا (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر وأسألك عزيمة الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك لسانا صادقا وقلبا سليما وأعوذ بك من شر ما تعلم إنك أنت علام الغيوب)([20]).

فالإخلاص قوة فعالة في توجيه النفس البشرية وقيادة القلب الإنساني، وكم من خطيب أشرقت منه صفة الإخلاص، استطاع بفضل إخلاصه أن يعالج أقسى القلوب، فإن الكلام إذا خرج من القلب استقر في القلب وإذا خرج من اللسان لم يتعد الآذان كما قيل قديما.

أما إذا تجرد الخطيب عن هذه الصفة الجليلة وباتت الدنيا غايته والشهرة مطلبه ووعظه من أجل السمعة فإنه مهما سما ببيانه وقويت فصاحته فلن يتمكن من الوصول إلى أعماق الناس سأل عبد الله بن احمد بن حنبل إياه قائلا يا أبت لم إذا خطبت بكى الناس وغيرك يخطب ولا يبكون فأجابه يا بني النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة.

2- أن لا يخالف قوله فعله:

وهذه الصفة عظيمة من صفات الخطيب الناجح وهي مدعاة لقبول كل ما يقوله ويرشد إليه قال الإمام الغزالي (رحمه الله) (أن يكون المعلم عاملا بعلمه فلا يكذب قوله فعله لأن العلم يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر، فإذا خالف العمل العلم منع الرشد وكل من تناول شيئا وقال للناس لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر منه الناس واتهموه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه فيقولون لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به…)([21]).

فإذا خالف الخطيب ما يقوله في خطبته أنفض الناس عنه جاء أناس يسألون الحسن البصري (رحمه الله) أن يخطب لهم عن فضيلة وأجر إعتاق الرقاب في الإسلام فمكث ثلاثة أشهر لم يتناولها في خطبته ثم تناولها. فجاؤا إليه وقالوا قلنا لك ذلك قبل أشهر ثلاث واليوم تتكلم عنها فأجاب وقال لم يكن لدي مال اشتري به رقبة لأعتقها فعملت هذه الأشهر حتى اشتريت وأعتقت فتكلمت رحم الله البصري على هذا الفقه الذي جعل السامعين يتهاولون شراء للعبيد وإعتاقهم في سبيل الله.

 

3- سمو الخلق:

إن حسن الخلق من أجمل الصفات الكريمة التي يجب أن يتحلى بها الخطيب، لكي ينجح في مضمار الخطابة، والخطيب يقف من الجمهور موقف الرائد القدوة، يهدي إلى الحق، ويبصر بالخير، ويحذر من هلكة أو غفلة، فإذا ما كانت أخلاقه رفيعة، كريمة، أثر كلامه في سامعيه، لأن حسن سمعته كالمقدمة للاقتناع بقوله، إذ أن مكانته الخلقية العالية تبعث على تصديقه.

ومن العيب أن يدعو خطيب إلى فضيلة، وهو معروف برذائله، وإن أمثال هذا النوع من الخطباء هم أشد خطرا على الأمة من السوس على القمح([22]).

وفي نبه الرسول  على خطر هؤلاء. حيث قال (لما أسري به مررت برجال تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون)([23]).

وقال أيضا (يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان ما شأنك، أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)([24]) وقال الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم.

 

4- حسن الإلقاء:

الخطيب الجيد هو الذي يكون إلقاؤه حسنا وجيدا لأن شخصيته وإشارته وجهارة صوته وحلاوته، وحسن الهندام كله عون على نجاح الخطبة ونحن نقرأ خطبا كان لها الدوي حين ألقيت ولم تكن إلا عادية، لأنها استوحت تأثيرها من الأسباب التي صاحبت إلقاءها.

 

5- الموضوعية في إلقاء الخطبة:

وتعني هذه الصفة أن يكون الخطيب مراعيا في خطبته حال السامعين من الوقت المناسب وحالهم من الثقافة وحاجتهم إلى موضوع كلامه فهذا عبد الله بن مسعود  يسأله تلاميذه الزيادة في المواعظ فأجابهم بأن رسول الله  كان يتخولهم بالنصيحة مخافة السآمة([25]) فالوقت المناسب له الأثر العظيم في تقبل الكلام الملقى على السامعين وكذا ثقافة السامعين يجب مراعاتها فلا يخاطبهم بأعلى من مستواهم فيجلوه ويكذبوه ولا أقل فيهجوه ويستقلوه فهذا علي بن أبي طالب يأمر الخطباء والوعاظ بمخاطبة الناس على قدر عقولهم فيقول (خاطبوا الناس على قدر عقولهم أتريدون أن يكذب الله ورسوله)([26]) فحين يذكر الخطيب لجهالة السامعين وهو يتكلم بكلام الله ورسوله فهو تكذيب لهما.

 

6- عدم تشتيت الخطبة:

وتعني هذه الصفة أن تكون خطبته ذات موضوع واحد تعالجه بعيدة عن الاضطراب والإغراب ليسهل على السامعين فهم المراد منهم والإحاطة بالموضوع كاملا لتجنى الفائدة من هذه الخطبة أما إذا عرض أكثر من موضوع تشتت السامع وعسر عليه الفهم وذهبت الفائدة.

 

 

7- سعة الثقافة:

لابد للخطيب الناجح أن تكون جعبة معرفته وعلمه مليئة ذاخرة لأنه يحتاج لعلمه ومعرفته وثقافته في أي وقت، وأما إذا كان محدود العلم قليل الزاد ضئيل المعرفة، فسوف يلقى عنادا إذا طلب منه إلقاء خطبته في محفل من المحافل، ومكتبة الخطيب جزء من كيانه، والخطيب الناجح خبزه الكتاب، وماؤه العلم، لا تطلع عليه شمس إلا وعنده علم جديد([27]).

قيل لعبد الملك بن مروان: عجل إليك الشيب يا أمير المؤمنين: فقال: وكيف لا يعجل علي: وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة أو مرتين أو قال: شيبني صعود المنابر والخوف من اللحف)([28]).

والحق أن الخطيب يعرض على الناس عقله، ويعرض عليهم ما عنده من تجربة أو فكرة أو عقيدة، الحياة كلها مجاله وميدانه.

 

المطلــــب الثالـــــث

العـوامـــل التي تعــــين الخطيب على إجــادة الإلقــــاء

 

بعد أن ذكرنا في المطلبين السابقين صفات الخطيب الناجح فيما يلي بعض العوامل التي تعين الخطيب على إجادة إلقائه إن هو راعاها وأولاها الأهمية:

1- الوقفة المناسبة:

لابد للخطيب وهو يلقي خطبته أن يقف وقفة تضفي عليه الهيبة والفخامة والعظمة، مع اجتناب بعض العادات السيئة ككثرة الحركة من غير مناسبة وذلك بأن يعتدل في وقفته ويبرز صدره إلى الأمام فقد وصف الصحابة وقفته عليه الصلاة والسلام أثناء خطبته بأنه كان يقابلهم بوجهه وبصدره واقفا عليه الهيبة والجلال.

 

2- حسن الإشارة:

الإشارة لغة منظورة، لغة متحركة مفهومة، فإذا جاءت الإشارة في موضعها الملائم أثرت تأثيرا عظيما، وصوت الخطيب مهما تغيرت نبراته ونغماته لا يكفي للتعبير عن العواطف كلها، فلابد من أن تساعده حركات اليد والرأس والمنكبين، وملامح الوجه، ونظرات العينين وإشارات الحاجب([29]) فالصحابة أن الرسول  حين ينذرهم يحمر وجهه وتنتفخ أوداجه وتحمر عيناه كأنما فقأ فيها حب الرمان([30]).

فالعين تكشف عما بداخل النفس فمثلا العين المفتوحة تمثل الغيظ أو الخوف أو الإعجاب، والمغلقة تشير إلى التواضع أو البغضاء والمتحركة يمينا وشمالا تشير إلى الرياء والاشمئزاز، والمتطلعة إلى السماء ترمز إلى الدعاء، والناظرة إلى الأرض تعبر عن اليأس أو الخشوع أو الحياء.

والوجه كله معبر عن الانفعالات بما يرتسم على صفحته من خطوط أو أشكال.

والوقفة المعتدلة تدل على التحدي والمنحنية تدل على التواضع والرحمة والشفقة وقد يجد الخطيب من اللائق عدم ذكر لفظة تشير إشارة تؤدي معناه فتكون أبرع دلالة وأليق مقاما.

فالسيدة عائشة رضي الله عنها غارت من صفية والرسول  يكلمها فقالت حسبك صفية وأشارت بيدها تعني قصيرة فكانت مؤثر هذه الإشارة فقال لها رسول الله  لقد قلت مقالة لو مزجت بماء البحر لمزجته([31]) وهي لم تقل لكنها إشارة فقط فادت المعنى المراد.

 

3- جهارة الصوت وحلاوته:

تعتبر جهارة الصوت وحلاوتها من الشروط الضرورية للخطيب الناجح، ليتمكن من السيطرة والهيمنة على قلوب السامعين ويذكرون أن هتلر النازي من أسباب شهرته وسيطرته على جنوده والجماهير من شعبه حماسته في خطبه وجهارة صوته في خطبه.

وقيل قديما أن الجمال: طول القامة، وضخم الهامة، ورحب الشدق، وبعد الصوت. ويمكن للخطيب أن يملك هذه الصفة بالتدريب للحنجرة وترويضها على الصوت المرتفع.

 

4- جمال الهندام:

الهندام الجميل المرتب المنسق يقوي الخطيب ثقة بنفسه، وتجعله مهابا في أعين الناس فرسول الله  كانت له بردة للخطبة ومقابلة الوفود فالأعين تبهرها المناظر والعين إحدى رسل القلب فما عشقته العين عشقه القلب كالأذن وهي الرسول الثاني.

قال بشار بن برد:

قالوا تهذي بمن لا ترى فقلت لهم                الأذن تعشق قبل العين أحيانا

 

5- النطق الجيد واتزان النبرات:

فعلى الخطيب أن يحسن في أداء الكلمات، بأن يخرج الحروف من مخارجها وأن تكون لغته سليمة وأن يجعل صوته مناسبا للمكان والسامعين، فيرسله إرسالا متوازنا يقوي صوته ويرفعه في مواطن القوة، ويخفضه في مواطن الخفض، فهذا يؤدي إلى تجديد الانتباه وشد السامعين وتحريك المشاعر وإعادة النشاط لديهم والإسراع في الخطبة صفة ذميمة وخصلة غير حسنة في الخطبة فتقول السيدة عائشة رض الله عنها كان رسول الله  يسرد سردكم هذا، كان يحدث حديثا لوعده العادة إلا حصاه، وكان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه ولا يعني هذا أن الإبطاء دوما هو الجيد ولكن الأمر عوان بين ذلك فلا إسراع فصل، ولا إبطاء مخل.

 

الخـــاتمـــــة

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير النبيين وبعد فإن لكل بداية نهاية وهاهو بحثنا شارف على الانتهاء وفي الختام أسطر بعض ما توصلت إليه من نتائج:

1-   القبائل العربية والإشراف من العرب من أمرائها وملوكها كانوا يتفاخرون بالخطباء من أبنائهم ويقدمونهم ويكرمونهم.

2-   الخطيب الناجح هو الذي يقدم الصفوف ويتقدمها نحو كل خير وبر.

3-   الخطيب الناجح هو الذي أخلص لله في شأنه كله فلا يقول وإلا يفعل ولا يأمر بفعل يفعل هو بخلافه.

4- بعض صفات الخطيب الناجح مكتسبة يستطيع الحصول عليها بالممارسة والتعلم وبعضها موهبة من الله تبارك وتعالى يهبها لمن يشاء.

5- صنف من الخطباء حذر منهم النبي  وهم خطباء الفتنة الذي يقولون ما لا يفعلون عقابهم يوم القيامة أن تعرض سفهاهم بمقاريض من نار.

وأخيرا اسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع لمرضاته إنه سميع قريب

 

المصــــــادر

1.          إحياء علوم الدين – أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (ت – 505هـ) – المكتب الثقافي – الأزهر – القاهرة.

2.          البيان والتبيين – الجاحظ – دار الفكر – بيروت – لبنان.

3.          تاريخ الأدب العربي – احمد حسن الزيات – دار نهضة مصر للطباعة والنشر – الفجالة – القاهرة.

4.          جواهر الأدب في أبيات وإنشاء لغة العرب – السيد احمد الهاشمي – مؤسسة المعارف – بيروت – لبنان.

5.          الخطابة والخطيب – د. محمد سمير الشاوي – دار العصماء – دمشق – سورية.

6.    الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية – إسماعيل بن حماد الجوهري – تحقيق احمد عبد الغفور عطار – دار العلم للملايين – لبنان.

7.          لسان العرب – أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور – دار صادر – بيروت.

8.          المبسوط، ابو بكر محمد بن ابي سهل السرخسي (ت707هـ) ، دار المعرفة ، بيروت، لبنان.

 

 

 

([1]) لسان العرب مادة (خطب) 5/98.

([2]) الصحاح مادة (خطب) 1/121.

([3]) الشرف. المكان المرتفع.

([4]) تاريخ الأدب العربي ص20.

([5]) المصدر السابق.

([6]) جواهر الأدب 2/111.

([7]) وهي الخطبة التي لم يحمد الله فيها.

([8]) جواهر الأدب 2/112.

([9]) جواهر الأدب 2/115.

([10]) الخطابة والخطيب ص87.

([11]) تاريخ الأدب العربي ص21.

([12]) الخطابة والخطيب ص87.

([13]) المصدر السابق ص99.

([14]) أبوة المستهل الكميت بن زيد ألأسدي الكوفي أشعر شعراء الشيعة الهاشمية ولد سنة 60هـ بالكوفة وقال الشعر صغيرا أنظر جواهر الأدب 2/139.

([15]) البيان والتبيين/1/125.

([16]) المصدر السابق.

([17]) الخطابة والخطيب ص98.

([18]) المبسوط للسرخسي: 28/76.

([19]) سورة النساء – الآية 146.

([20]) رواه الترمذي عن شداد بن أوس/كتاب الدعوات عن رسول الله/رقم 3329.

([21]) إحياء علوم الدين 1/102.

([22]) تنظر الخطابة والخطيب ص91.

([23]) احمد/كتاب باقي مسند المكثرين/باب باقي المسند/رقم 12940.

([24]) البخاري/كتاب بدء الخلق/باب صفة النار/رقم (3027)-مسلم/كتاب الزهد/باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله/رقم (5305).

([25]) البخاري/كتاب العلم/باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة/رقم (68). مسلم/كتاب صفة القيامة والجنة والنار/باب الاقتصاد بالموعظة/رقم (5047).

([26]) البخاري/كتاب العلم/باب من خص بالعلم قوما دون قوم/رقم (124).

([27]) الخطابة والخطيب، ص88.

([28]) المصدر السابق.

([29]) الخطابة والخطيب ص94.

([30]) ابن ماجة/كتاب المقدمة/باب في القدر/رقم (82) – احمد/كتاب مسند المكثرين/باب مسند عبد الله بن عمرو بن العاص/رقم (6381).

([31]) الترمذي/كتاب صفة القيامة والرقائق/رقم (2436) – أبو داود/كتاب الأدب/باب في الغيبة/ رقم (4232).